FWDADAB Telegram 473
في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(7)
.
.
"أي إنجليزية نُعلِّم؟" هذا السؤال يحتل بؤرة اشتغال اللسانيات التطبيقية في أكثر بلدان الكومنولث، وسببه يرجع إلى حقيقة أننا(أو على الأصح: أنهم !) اليوم أمام إنجليزيات لا أمام إنجليزية واحدة، فهناك الإنجليزية البريطانية، والأمريكية، والأسترالية، والهندية، والجنوب-إفريقية، وهذه الإنجليزيات هي المشهورة والتي فرضت نفسها بامتداد الاستعمال، ويمكننا أن نرى في الأفق القريب تنوعات أخرى للإنجليزية. هذه التنوعات كأنها ردود فعل ضد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فالشعوب العديدة التي رزحت طويلا تحت نير الاحتلال البريطاني، قررت أن تتناهب لغته وثقافته، وأن تحصره داخل مسماه، ليصير أقلية لغوية داخل لغته، وبالفعل، فإن ما يسمى الإنجليزية البريطانية يكاد يتذيل ترتيب الاستعمال بين هذه التنوعات الخمس الكبرى للإنجليزية.
.
أحببت أن أجعل من هذه القضية مدخلا للحديث عن المعيار اللغوي في اللسانيات التطبيقية؛ كما كنا أشرنا إليه في آخر الحلقة السابقة. ذلك أن سؤال: "أي إنجليزية نعلم؟" هو سؤال معياري في نهاية الأمر، سواء كانت إجابتنا عنه مستندة إلى "المعيارية اللغوية" أو إلى غيرها، فإن مجرد اتخاذ قرار في هذه القضية وتبنيه ضمن سياسة تعليمية؛ سيجعل من "الإنجليزية المختارة" معيارا، وسيعطيها أسبقية في مضمار التنافس بين هذه التنوعات، إذ إن تبني تنوع لغوي في إطار السياسات اللغوية والتخطيط اللغوي يعني إعطاءه أفضلية في الاستعمال الأكاديمي، والإداري، والإعلامي، والاقتصادي. وكل هذا ستكون له آثاره الاجتماعية العميقة من حيث فرص التعليم والعمل، والتعامل الاقتصادي.
.
ولكن قبل الوصول إلى هذه النقطة، تضع اللسانيات التطبيقية أمام مفهوم المعيار اللغوي ثلاث مشكلات نظرية: المشكلة الأولى هي مشكلة ما يسمى باللغة المرحلية(interlanguage)، سواء عند الطفل الناطق باللغة، أو عند متعلم اللغة من غير الناطقين بها. والمراد باللغة المرحلية ذلك المستوى من تطور النظام اللغوي عند الناطق-المكتسب قبل مرحلة النضج اللغوي، حيث يتساءل اللسانيون الوصفيون: في أي مرحلة من الاكتساب اللغوي يمكننا أن نقول إن المتكلم صار ناطقا مثاليا للغة(الفصيح في اللسانيات العربية)؟
.
والمشكلة الثانية هي مشكلة التنوعات اللهجية داخل اللغة الواحدة، حيث يتساءل الوصفيون كذلك: على أي أساس موضوعي يمكننا أن نقدم استعمالا لهجيا محليا لنجعله معتمدا عند عامة الناطقين باللغة؟ والظاهر أن مشكلة "الأساس الموضوعي" هذه سببها أن الوصفيين اكتشفوا أن اعتماد تنوع لهجي معين يرجع في أكثر الأحيان إلى أسباب غير لغوية: قد تكون سياسية أو تاريخية، كالمركزية السياسية للمنطقة المتكلمة بهذه اللهجة(وهي العواصم في أغلب الحالات) كما هو الحال مع الباريسية في فرنسا، ولهجات الجنوب في الجزيرة البريطانية، والقشتالية في إسبانيا.
.
وأما المشكلة الثالثة فهي لا تتعلق باللغة نفسها بقدر ما تتعلق بالوصف اللغوي كما يقدمه النحو المعياري(ولنذكر دوما بأن المراد بالنحو هنا: الأوروبي)، وهو جنوح هذا النحو إلى التعليل المنطقي للغة المعيارية، مما يصورها في صورة النسخة المطابقة للعقل، وبالتالي يصور التنوعات الأخرى المجاورة لها على أنها نسخ ناقصة أو مشوهة عن النسخة الأصلية. ولا بد أن هذا النوع من الوصف اللغوي-المنطقي هو بعض ميراث مدرسة بور روايال، كما أنه يمت بنسب إلى فلسفات العصر الفيكتوري بكل ما كانت مشبعة به من مفاهيم تراتبية بل عنصرية في بعض الأحيان.
.
ويعترف قاي كوك؛ وهو أحد اللسانيين التطبيقيين المتبصرين بأن هذه المشكلات يمكنها أن تكون مجال نقاشات طويلة وعميقة في اللسانيات النظرية والاجتماعية، ولكن من الصعب أن تتجاوز حقيقة أن اللغة لا تنفك عن جانب معياري هو الذي يعطيها وظيفتها الاجتماعية. بل ينتهي إلى حقيقة أن المعيار بهذا المفهوم هو جزء من الحقيقة اللغوية التي يجب وصفها، وبالتالي فـ: "المعيارية ظاهرة اجتماعية، ولا يمكن تقليديا مقابلتها بالوصفية" (علم اللغة التطبيقي، ص24). وعوض أن نستحدث معركة مختلقة، ينبه كوك إلى أن المعيار نفسه ينبغي أن يكون موضوعا للوصف والتفسير، ما دام اعتقادا يتحكم في استعمال المتكلمين أنفسهم للغة ورؤيتهم لها(ص23).
.
بعد هذا العرض المقتضب لقضية المعيار اللغوي والمعيارية العلمية في بعض الميادين اللسانية الغربية، يمكننا أن نتفرغ لدراسة بعض ملامح المعيار اللغوي في الفكر اللساني العربي، وعلاقته بالمعيار الشرعي، وأثر ذلك في العلوم الإسلامية، والله الموفق.

يتبع إن شاء الله.



tgoop.com/fwdadab/473
Create:
Last Update:

في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(7)
.
.
"أي إنجليزية نُعلِّم؟" هذا السؤال يحتل بؤرة اشتغال اللسانيات التطبيقية في أكثر بلدان الكومنولث، وسببه يرجع إلى حقيقة أننا(أو على الأصح: أنهم !) اليوم أمام إنجليزيات لا أمام إنجليزية واحدة، فهناك الإنجليزية البريطانية، والأمريكية، والأسترالية، والهندية، والجنوب-إفريقية، وهذه الإنجليزيات هي المشهورة والتي فرضت نفسها بامتداد الاستعمال، ويمكننا أن نرى في الأفق القريب تنوعات أخرى للإنجليزية. هذه التنوعات كأنها ردود فعل ضد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فالشعوب العديدة التي رزحت طويلا تحت نير الاحتلال البريطاني، قررت أن تتناهب لغته وثقافته، وأن تحصره داخل مسماه، ليصير أقلية لغوية داخل لغته، وبالفعل، فإن ما يسمى الإنجليزية البريطانية يكاد يتذيل ترتيب الاستعمال بين هذه التنوعات الخمس الكبرى للإنجليزية.
.
أحببت أن أجعل من هذه القضية مدخلا للحديث عن المعيار اللغوي في اللسانيات التطبيقية؛ كما كنا أشرنا إليه في آخر الحلقة السابقة. ذلك أن سؤال: "أي إنجليزية نعلم؟" هو سؤال معياري في نهاية الأمر، سواء كانت إجابتنا عنه مستندة إلى "المعيارية اللغوية" أو إلى غيرها، فإن مجرد اتخاذ قرار في هذه القضية وتبنيه ضمن سياسة تعليمية؛ سيجعل من "الإنجليزية المختارة" معيارا، وسيعطيها أسبقية في مضمار التنافس بين هذه التنوعات، إذ إن تبني تنوع لغوي في إطار السياسات اللغوية والتخطيط اللغوي يعني إعطاءه أفضلية في الاستعمال الأكاديمي، والإداري، والإعلامي، والاقتصادي. وكل هذا ستكون له آثاره الاجتماعية العميقة من حيث فرص التعليم والعمل، والتعامل الاقتصادي.
.
ولكن قبل الوصول إلى هذه النقطة، تضع اللسانيات التطبيقية أمام مفهوم المعيار اللغوي ثلاث مشكلات نظرية: المشكلة الأولى هي مشكلة ما يسمى باللغة المرحلية(interlanguage)، سواء عند الطفل الناطق باللغة، أو عند متعلم اللغة من غير الناطقين بها. والمراد باللغة المرحلية ذلك المستوى من تطور النظام اللغوي عند الناطق-المكتسب قبل مرحلة النضج اللغوي، حيث يتساءل اللسانيون الوصفيون: في أي مرحلة من الاكتساب اللغوي يمكننا أن نقول إن المتكلم صار ناطقا مثاليا للغة(الفصيح في اللسانيات العربية)؟
.
والمشكلة الثانية هي مشكلة التنوعات اللهجية داخل اللغة الواحدة، حيث يتساءل الوصفيون كذلك: على أي أساس موضوعي يمكننا أن نقدم استعمالا لهجيا محليا لنجعله معتمدا عند عامة الناطقين باللغة؟ والظاهر أن مشكلة "الأساس الموضوعي" هذه سببها أن الوصفيين اكتشفوا أن اعتماد تنوع لهجي معين يرجع في أكثر الأحيان إلى أسباب غير لغوية: قد تكون سياسية أو تاريخية، كالمركزية السياسية للمنطقة المتكلمة بهذه اللهجة(وهي العواصم في أغلب الحالات) كما هو الحال مع الباريسية في فرنسا، ولهجات الجنوب في الجزيرة البريطانية، والقشتالية في إسبانيا.
.
وأما المشكلة الثالثة فهي لا تتعلق باللغة نفسها بقدر ما تتعلق بالوصف اللغوي كما يقدمه النحو المعياري(ولنذكر دوما بأن المراد بالنحو هنا: الأوروبي)، وهو جنوح هذا النحو إلى التعليل المنطقي للغة المعيارية، مما يصورها في صورة النسخة المطابقة للعقل، وبالتالي يصور التنوعات الأخرى المجاورة لها على أنها نسخ ناقصة أو مشوهة عن النسخة الأصلية. ولا بد أن هذا النوع من الوصف اللغوي-المنطقي هو بعض ميراث مدرسة بور روايال، كما أنه يمت بنسب إلى فلسفات العصر الفيكتوري بكل ما كانت مشبعة به من مفاهيم تراتبية بل عنصرية في بعض الأحيان.
.
ويعترف قاي كوك؛ وهو أحد اللسانيين التطبيقيين المتبصرين بأن هذه المشكلات يمكنها أن تكون مجال نقاشات طويلة وعميقة في اللسانيات النظرية والاجتماعية، ولكن من الصعب أن تتجاوز حقيقة أن اللغة لا تنفك عن جانب معياري هو الذي يعطيها وظيفتها الاجتماعية. بل ينتهي إلى حقيقة أن المعيار بهذا المفهوم هو جزء من الحقيقة اللغوية التي يجب وصفها، وبالتالي فـ: "المعيارية ظاهرة اجتماعية، ولا يمكن تقليديا مقابلتها بالوصفية" (علم اللغة التطبيقي، ص24). وعوض أن نستحدث معركة مختلقة، ينبه كوك إلى أن المعيار نفسه ينبغي أن يكون موضوعا للوصف والتفسير، ما دام اعتقادا يتحكم في استعمال المتكلمين أنفسهم للغة ورؤيتهم لها(ص23).
.
بعد هذا العرض المقتضب لقضية المعيار اللغوي والمعيارية العلمية في بعض الميادين اللسانية الغربية، يمكننا أن نتفرغ لدراسة بعض ملامح المعيار اللغوي في الفكر اللساني العربي، وعلاقته بالمعيار الشرعي، وأثر ذلك في العلوم الإسلامية، والله الموفق.

يتبع إن شاء الله.

BY قناة الأحمدي-أمين قادري


Share with your friend now:
tgoop.com/fwdadab/473

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

Clear Among the requests, the Brazilian electoral Court wanted to know if they could obtain data on the origins of malicious content posted on the platform. According to the TSE, this would enable the authorities to track false content and identify the user responsible for publishing it in the first place. The administrator of a telegram group, "Suck Channel," was sentenced to six years and six months in prison for seven counts of incitement yesterday. Members can post their voice notes of themselves screaming. Interestingly, the group doesn’t allow to post anything else which might lead to an instant ban. As of now, there are more than 330 members in the group. Select “New Channel”
from us


Telegram قناة الأحمدي-أمين قادري
FROM American