FWDADAB Telegram 469
في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(6)
.
.
يحتوي كتاب (sociolinguistique-concepts et bases) لمنسقته وناشرته ماري لويز مورو على مجموعة من المداخل المتعلق بالمعيار، منها مداخل كتبتها أو شاركت في كتابتها، ومنها مداخل لمتخصصين آخرين مثل ديدييه دي روبيار ودانيال باجيوني. وهذه المداخل هي: (التقييس-normalisation)، (التقييس والتوحيد-normalisation standardisation)، (المعيار-norme)، (المعيار الداخلي-norme endogène). ويعد مدخل (المعيار) أوسع هذه المداخل وأهمها، وذلك لانقسامه إلى قسمين: أصل المفهوم(بقلم باجيوني)، وأنواع المعيار(بقلم مورو).
.
وما دامت سلسلتنا هذه تمثل مرحلة تجريبية للكتابة في هذا الموضوع(أي مقتصرة على توثيق الأفكار والرؤى في انتظار الاستفادة من آراء من عساه يقرؤها)؛ فمن المسموح لنا أن نتحدث بلغة الانطباع قليلا. والانطباع الذي سجلته شخصيا من قراءة هذه المداخل، والذي يمكن التأكد من صحته أو خطئه، هو أن اللسانيات الاجتماعية(باعتبارها ميدان الكتاب) تحاول أن تعترف بقدر من التحفظ والهدوء بأن اللسانيات الوصفية البنوية في أوج مجدها واندفاعها قد ارتكبت خطأ بموقفها من مفهوم المعيار، ذلك الموقف الذي بدا: معاديا، ومتهجما، بل ساخرا من المعيار اللغوي، وممن يُحسبون على البحث المعياري، حتى إن عبارات مثل: (النحو المعياري)، أو (النحاة المعياريون) غدت أقرب إلى التهمة أو "المسبة" منها إلى التصنيف العلمي أو التاريخي لتطور النظرية اللغوية.
.
لقد نظر رواد اللسانيات الوصفية إلى نحاة القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا على أنهم "شيوخ كتاتيب" في الثقافة العربية، أي أنهم حراس على أبواب منظومة تعليمية متمنّعة على أي اختراق أو تطوير. فهم يريدون المحافظة على معايير صوابية معينة، مدعمة ومبررة بمنظومة كاملة من الحجج (غير اللغوية في الغالب) والتي تنتمي إلى تقاليد أرسطية تقدم تعليلا منطقيا للأشكال اللغوية المفضلة. وبالتالي فإن موقف اللسانيات الوصفية من النحو المعياري كان عدم الاعتراف بعلمية رؤيته ومنهجه أساسا. وهو ما ولّد تقسيما للنشاط اللساني إلى (علمي) و(ما قبل علمي)، حيث صنف نحوُ القواعد والصوابية اللغوية كله في الخانة الأولى. (ينظر: مدخل إلى المنهج البنوي للسانيات لفان دي فيلد، ص15-16)
.
ولا بد أن عودة الاتزان إلى البحث اللساني عن طريق مبدأي العمل الميداني والنسبية اللغوية(وهما مبدآن مستفادان من الأنثروبولوجيا)، سمحت باكتشاف المعيار الذي مصدره خيارات المتكلمين وتوافقاتهم، والذي لم يزد النحاة المعياريون -كما يسميهم الوصفيون- على رصده ووصفه وتوثيقه. وقد سمح العمل الميداني برصد حقيقة مهمة عن اللغة، هي أن التنوع اللغوي واللهجي الذي أولع به الوصفيون ليست أهميته على السواء في وعي المتكلمين أنفسهم، وأن ثمة ظواهر لغوية في المستويات الصوتية والصرفية والنحوية لا يمسها هذا التنوع. فهي تمثل ما يحدد لغة في مقابل لغة أخرى، وهنا لا نتحدث عن الصواب والخطأ بالمفهوم الأخلاقي، وإنما بمفهوم الانتماء أو عدم الانتماء الذي تحدثنا عنه في حلقات سابقة.
.
ومما يدل على الانعطاف الهادئ لمفهوم المعيار مجددا والعودة إليه باعتباره ظاهرة لغوية جديرة بالدراسة والوصف، لغة الاعتراف التي يكتب بها دي روبيار المبررات العلمية لمفهوم المعيار والتي يقسمها إلى مبررات(أو حجج) معرفية-إدراكية، ومبررات سوسيولوجية، ومبررات تواصلية. حيث يبين أن تماسك النسيج الاجتماعي، وتسهيل التواصل، يرشحان المعيارية والثبات على حساب نزعة التجديد والتنويع، كما أن القدرات المعرفية-الإدراكية للعقل البشري تفضل الاستقرار النسبي على التغيير السريع والتنويع غير المنضبط الذي سيؤدي إلى قطيعة تواصلية بين الأجيال المتعاقبة.
.
وأما ماري لويز مورو، فإنها تقترح تصنيفا للمعايير اللغوية تحرر من خلاله المعيار الموضوعي من كل ما لابسه تاريخيا: ينقسم وفقه المعيار إلى خمسة أنواع: معيار اشتغال اللغة، والمعيار الوصفي، والمعيار الإلزامي-الانتقائي، والمعيار التقييمي، والمعيار التخييلي. على أن هذا التقسيم يحمل الكثير من التداخل، وقدرا من الإبهام في بعض تفاصيله، مما يضع العرض كله في موضع ضعف، ومع ذلك فإن أهم نتيجة نخرج بها هي ما أسلفنا ذكره من أن ثمة مفاهيم تم استبعادها لأسباب غلبت فيها الإيديولوجيا المذهبية على الرؤية العلمية، وأنه يقع على عاتق اللسانيات الاجتماعية إعادة الاعتبار لها. مع أننا نعترف بأن مفهوم المعيار سيصادف بعض الإشكالات العملية في ميدان اللسانيات التطبيقية، وخصوصا في ميدان تعليم اللغات الحية اليوم، وهي الإشكالات التي يؤطرها السؤال التعليمي الشهير: أيَّ معيار للغة سنعلم؟ نأمل أن نستطيع عرض هذا الجانب من مشكلة المعيار فيما نستقبل بإذن الله تعالى.

يتبع إن شاء الله.



tgoop.com/fwdadab/469
Create:
Last Update:

في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(6)
.
.
يحتوي كتاب (sociolinguistique-concepts et bases) لمنسقته وناشرته ماري لويز مورو على مجموعة من المداخل المتعلق بالمعيار، منها مداخل كتبتها أو شاركت في كتابتها، ومنها مداخل لمتخصصين آخرين مثل ديدييه دي روبيار ودانيال باجيوني. وهذه المداخل هي: (التقييس-normalisation)، (التقييس والتوحيد-normalisation standardisation)، (المعيار-norme)، (المعيار الداخلي-norme endogène). ويعد مدخل (المعيار) أوسع هذه المداخل وأهمها، وذلك لانقسامه إلى قسمين: أصل المفهوم(بقلم باجيوني)، وأنواع المعيار(بقلم مورو).
.
وما دامت سلسلتنا هذه تمثل مرحلة تجريبية للكتابة في هذا الموضوع(أي مقتصرة على توثيق الأفكار والرؤى في انتظار الاستفادة من آراء من عساه يقرؤها)؛ فمن المسموح لنا أن نتحدث بلغة الانطباع قليلا. والانطباع الذي سجلته شخصيا من قراءة هذه المداخل، والذي يمكن التأكد من صحته أو خطئه، هو أن اللسانيات الاجتماعية(باعتبارها ميدان الكتاب) تحاول أن تعترف بقدر من التحفظ والهدوء بأن اللسانيات الوصفية البنوية في أوج مجدها واندفاعها قد ارتكبت خطأ بموقفها من مفهوم المعيار، ذلك الموقف الذي بدا: معاديا، ومتهجما، بل ساخرا من المعيار اللغوي، وممن يُحسبون على البحث المعياري، حتى إن عبارات مثل: (النحو المعياري)، أو (النحاة المعياريون) غدت أقرب إلى التهمة أو "المسبة" منها إلى التصنيف العلمي أو التاريخي لتطور النظرية اللغوية.
.
لقد نظر رواد اللسانيات الوصفية إلى نحاة القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا على أنهم "شيوخ كتاتيب" في الثقافة العربية، أي أنهم حراس على أبواب منظومة تعليمية متمنّعة على أي اختراق أو تطوير. فهم يريدون المحافظة على معايير صوابية معينة، مدعمة ومبررة بمنظومة كاملة من الحجج (غير اللغوية في الغالب) والتي تنتمي إلى تقاليد أرسطية تقدم تعليلا منطقيا للأشكال اللغوية المفضلة. وبالتالي فإن موقف اللسانيات الوصفية من النحو المعياري كان عدم الاعتراف بعلمية رؤيته ومنهجه أساسا. وهو ما ولّد تقسيما للنشاط اللساني إلى (علمي) و(ما قبل علمي)، حيث صنف نحوُ القواعد والصوابية اللغوية كله في الخانة الأولى. (ينظر: مدخل إلى المنهج البنوي للسانيات لفان دي فيلد، ص15-16)
.
ولا بد أن عودة الاتزان إلى البحث اللساني عن طريق مبدأي العمل الميداني والنسبية اللغوية(وهما مبدآن مستفادان من الأنثروبولوجيا)، سمحت باكتشاف المعيار الذي مصدره خيارات المتكلمين وتوافقاتهم، والذي لم يزد النحاة المعياريون -كما يسميهم الوصفيون- على رصده ووصفه وتوثيقه. وقد سمح العمل الميداني برصد حقيقة مهمة عن اللغة، هي أن التنوع اللغوي واللهجي الذي أولع به الوصفيون ليست أهميته على السواء في وعي المتكلمين أنفسهم، وأن ثمة ظواهر لغوية في المستويات الصوتية والصرفية والنحوية لا يمسها هذا التنوع. فهي تمثل ما يحدد لغة في مقابل لغة أخرى، وهنا لا نتحدث عن الصواب والخطأ بالمفهوم الأخلاقي، وإنما بمفهوم الانتماء أو عدم الانتماء الذي تحدثنا عنه في حلقات سابقة.
.
ومما يدل على الانعطاف الهادئ لمفهوم المعيار مجددا والعودة إليه باعتباره ظاهرة لغوية جديرة بالدراسة والوصف، لغة الاعتراف التي يكتب بها دي روبيار المبررات العلمية لمفهوم المعيار والتي يقسمها إلى مبررات(أو حجج) معرفية-إدراكية، ومبررات سوسيولوجية، ومبررات تواصلية. حيث يبين أن تماسك النسيج الاجتماعي، وتسهيل التواصل، يرشحان المعيارية والثبات على حساب نزعة التجديد والتنويع، كما أن القدرات المعرفية-الإدراكية للعقل البشري تفضل الاستقرار النسبي على التغيير السريع والتنويع غير المنضبط الذي سيؤدي إلى قطيعة تواصلية بين الأجيال المتعاقبة.
.
وأما ماري لويز مورو، فإنها تقترح تصنيفا للمعايير اللغوية تحرر من خلاله المعيار الموضوعي من كل ما لابسه تاريخيا: ينقسم وفقه المعيار إلى خمسة أنواع: معيار اشتغال اللغة، والمعيار الوصفي، والمعيار الإلزامي-الانتقائي، والمعيار التقييمي، والمعيار التخييلي. على أن هذا التقسيم يحمل الكثير من التداخل، وقدرا من الإبهام في بعض تفاصيله، مما يضع العرض كله في موضع ضعف، ومع ذلك فإن أهم نتيجة نخرج بها هي ما أسلفنا ذكره من أن ثمة مفاهيم تم استبعادها لأسباب غلبت فيها الإيديولوجيا المذهبية على الرؤية العلمية، وأنه يقع على عاتق اللسانيات الاجتماعية إعادة الاعتبار لها. مع أننا نعترف بأن مفهوم المعيار سيصادف بعض الإشكالات العملية في ميدان اللسانيات التطبيقية، وخصوصا في ميدان تعليم اللغات الحية اليوم، وهي الإشكالات التي يؤطرها السؤال التعليمي الشهير: أيَّ معيار للغة سنعلم؟ نأمل أن نستطيع عرض هذا الجانب من مشكلة المعيار فيما نستقبل بإذن الله تعالى.

يتبع إن شاء الله.

BY قناة الأحمدي-أمين قادري


Share with your friend now:
tgoop.com/fwdadab/469

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

With the sharp downturn in the crypto market, yelling has become a coping mechanism for many crypto traders. This screaming therapy became popular after the surge of Goblintown Ethereum NFTs at the end of May or early June. Here, holders made incoherent groaning sounds in late-night Twitter spaces. They also role-played as urine-loving Goblin creatures. Invite up to 200 users from your contacts to join your channel ZDNET RECOMMENDS The SUCK Channel on Telegram, with a message saying some content has been removed by the police. Photo: Telegram screenshot. Developing social channels based on exchanging a single message isn’t exactly new, of course. Back in 2014, the “Yo” app was launched with the sole purpose of enabling users to send each other the greeting “Yo.”
from us


Telegram قناة الأحمدي-أمين قادري
FROM American