FWDADAB Telegram 468
في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(5)
.
.
"اللسان نظام من الأدلة المتواضع عليها"، هذا التعريف من الأوليات العلمية التي يتلقاها طلبة أقسام اللغات، وحتى طلبة أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية المجاورة الذين يحتاجون إلى معارف لسانية، بل حتى طلاب أقسام الحاسوبيات وهم بصدد دراسة العلاج الآلي للغات الطبيعية. وهذا الامتداد الشبكي الذي يستفيد منه هذا التعريف يسمح بتمديد مفهوم التواضع(convention) بين هذه التخصصات. فاتفاق الجماعة على نظام من الأنظمة واستقرارها على اعتماده في التعامل وعلى احترامه وعلى معاقبة مخالفيه يعطيه "القيمة المعيارية" التي تحدثنا عنها في الحلقات السابقة.
.
ومن بين كل الظواهر المعيارية؛ تحتل اللغة مرتبة متقدمة لسبب مثير: وهو أنها نظام نتفق "عليه" أولا، ليتحول إلى نظام نتفق "به" على الأنظمة الأخرى، فلئن كانت اللغة أداة للتواصل(مع التحفظ على مصطلح الأداة الذي سبق عرض نقده عند بنفنيست)، فإن وظيفة التواصل هي التنظيم، فالجماعات البشرية تتواصل باستمرار في محور النظام: إما مؤسسة له، أو مذكرة به، أو محللة له، أو مجددة طبيعة العلاقات التي تشكل النظام. وينبه إدغار موران إلى أن هذه الوظيفة كما تتجلى في أعلى شبكات التواصل(على مستوى الجماعات)؛ فإنها تتجلى كذلك في أدنى مستويات الحياة، فالجسم الحي تتواصل أجزاؤه الخلوية بنقل مستمر للمعلومات في سبيل تنظيم وظائفه الحيوية.
.
ومن أجل هذا الدور الخطير الذي تضطلع به اللغة-وهو دور الوساطة لتأسيس الأنظمة الأخرى-، فإن معياريتها ضرورة تواصلية، لأنها ضمان لتحقق تصور توافقي للمفاهيم التي ستتأسس عليها هذه الأنظمة. فهذه الضرورة لا تقتصر على الحد الأدنى الذي نتصوره الذي هو إمكانية "التواصل"، وإنما تمتد إلى إمكانية "التفاهم"، التي هي شرط أساسي لإمكانية "التعاون" الذي يقوم عليه الاجتماع الإنساني. وأي صدمة شديدة وسريعة تتعرض لها هذه المعيارية تعني أثرا بالقدر نفسه أو أكبر في كل الأنظمة التي يتم تأسيسها عبر اللغة. وقد يمتد الأثر كالزاوية المنفرجة لتكون تبعات الاختلال المعياري اللغوي؛ اليسير جدا؛ فادحة جدا، إنه "أثر الفراشة".
.
هل يعني هذا أن المعيار اللغوي مفهوم متعال على التغير التاريخي؟ حتما لا، لا من جهة تصورنا له، ولا من جهة الواقع، ولكننا أردنا فقط أن نبين النتائج المباشرة للتغيرات التي تمس المعيار اللغوي على مستويات مختلفة وبدرجات متفاوتة، وهذه النتائج يدركها المتكلمون إدراكا مباشرا، وهو ما يجعلهم يحاولون قدر المستطاع التحكم في "سرعة التغيّر" أو "إيقاع التغيّر". وهذا موضوع طريف جدا للدراسة: كيف يمارس المتكلمون تغييرات معينة ؟ وكيف يحاربون تغييرات أخرى؟ وهل ثمة تناغم بين الحركتين، أم أنه شكل من أشكال الصراع اللغوي؟(ينظر الإشارة إلى هذه الجدلية عند ديدييه دي روبيارد في مادة (normalisation) من كتاب اللسانيات الاجتماعية لماري لويز مورو، ص214-215).
.
إن جدلية المعيار والتنوع لا تقتصر على التنظيم اللغوي، بل هي جدلية تتعلق بكل منظومة، سواء كانت اجتماعية من النوع الأدنى(كالأسرة مثلا) أو سياسية(كنظام الحكم)، وقد عرف التاريخ وقائع تاريخية تجلت فيها هذه الجدلية بوضوح كبير، كصراع (monarchie vs anarchie) في أثناء الثورة الفرنسية، والذي جسد التجاذبات بين الاحتفاظ بالمنظومة القديمة ومحاولة تأسيس منظومة جديدة انطلاقا من هدم المعايير المستقرة. بل ربما كانت الثورة الفرنسية من هذه الزاوية مصدر إلهام للتفكير النظري في هذه القضية، كيف لا، وهي التي وفرت الغطاء السياسي والأخلاقي لأكثر التغيّرات التي عرفتها الثقافة في فرنسا خصوصا وأوروبا عموما، والتي ثارت على الإطار الكنسي للمعرفة.
.
لقد كان كلامنا عن مفهوم المعيار في الحلقات السابقة متلبسا بالفهم السوسيولوجي وأحيانا النفسي له، مع بعض الاقتراب من ميدان اللغة الذي هو محل اهتمامنا، والغرض من ذلك أن نساعد أنفسنا أولا على تحقيق فهم "أوسع" لمفهوم المعيار، وأن نتجاوز ضيق الزاوية اللغوية التي قد تصير عائقا للفهم إذا انكفأنا عليها وولينا ظهورنا للحقائق النفسية والمعرفية والاجتماعية للمعيار. وسنحاول في حلقات مقبلة أن نقدم قراءة سريعة لمعيارية اللغة في بعض المراجع المهتمة بالموضوع، وعلى جهة الخصوص في ميداني: النحو الوصفي والمعياري، واللسانيات الاجتماعية، ونعرّج بعد ذلك على تتبع بعض مظاهر المعيارية في علوم اللغة العربية، وكيف حدد علماء العربية المعيار اللغوي المسمى "العربية الفصحى"، وما هي مبرراته الثقافية والعلمية؟ إذ كان هو الغرض الأول، وبه تتحقق المقارنة المرجوة مع علوم الشريعة، والله الموفق.

يتبع إن شاء الله.



tgoop.com/fwdadab/468
Create:
Last Update:

في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(5)
.
.
"اللسان نظام من الأدلة المتواضع عليها"، هذا التعريف من الأوليات العلمية التي يتلقاها طلبة أقسام اللغات، وحتى طلبة أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية المجاورة الذين يحتاجون إلى معارف لسانية، بل حتى طلاب أقسام الحاسوبيات وهم بصدد دراسة العلاج الآلي للغات الطبيعية. وهذا الامتداد الشبكي الذي يستفيد منه هذا التعريف يسمح بتمديد مفهوم التواضع(convention) بين هذه التخصصات. فاتفاق الجماعة على نظام من الأنظمة واستقرارها على اعتماده في التعامل وعلى احترامه وعلى معاقبة مخالفيه يعطيه "القيمة المعيارية" التي تحدثنا عنها في الحلقات السابقة.
.
ومن بين كل الظواهر المعيارية؛ تحتل اللغة مرتبة متقدمة لسبب مثير: وهو أنها نظام نتفق "عليه" أولا، ليتحول إلى نظام نتفق "به" على الأنظمة الأخرى، فلئن كانت اللغة أداة للتواصل(مع التحفظ على مصطلح الأداة الذي سبق عرض نقده عند بنفنيست)، فإن وظيفة التواصل هي التنظيم، فالجماعات البشرية تتواصل باستمرار في محور النظام: إما مؤسسة له، أو مذكرة به، أو محللة له، أو مجددة طبيعة العلاقات التي تشكل النظام. وينبه إدغار موران إلى أن هذه الوظيفة كما تتجلى في أعلى شبكات التواصل(على مستوى الجماعات)؛ فإنها تتجلى كذلك في أدنى مستويات الحياة، فالجسم الحي تتواصل أجزاؤه الخلوية بنقل مستمر للمعلومات في سبيل تنظيم وظائفه الحيوية.
.
ومن أجل هذا الدور الخطير الذي تضطلع به اللغة-وهو دور الوساطة لتأسيس الأنظمة الأخرى-، فإن معياريتها ضرورة تواصلية، لأنها ضمان لتحقق تصور توافقي للمفاهيم التي ستتأسس عليها هذه الأنظمة. فهذه الضرورة لا تقتصر على الحد الأدنى الذي نتصوره الذي هو إمكانية "التواصل"، وإنما تمتد إلى إمكانية "التفاهم"، التي هي شرط أساسي لإمكانية "التعاون" الذي يقوم عليه الاجتماع الإنساني. وأي صدمة شديدة وسريعة تتعرض لها هذه المعيارية تعني أثرا بالقدر نفسه أو أكبر في كل الأنظمة التي يتم تأسيسها عبر اللغة. وقد يمتد الأثر كالزاوية المنفرجة لتكون تبعات الاختلال المعياري اللغوي؛ اليسير جدا؛ فادحة جدا، إنه "أثر الفراشة".
.
هل يعني هذا أن المعيار اللغوي مفهوم متعال على التغير التاريخي؟ حتما لا، لا من جهة تصورنا له، ولا من جهة الواقع، ولكننا أردنا فقط أن نبين النتائج المباشرة للتغيرات التي تمس المعيار اللغوي على مستويات مختلفة وبدرجات متفاوتة، وهذه النتائج يدركها المتكلمون إدراكا مباشرا، وهو ما يجعلهم يحاولون قدر المستطاع التحكم في "سرعة التغيّر" أو "إيقاع التغيّر". وهذا موضوع طريف جدا للدراسة: كيف يمارس المتكلمون تغييرات معينة ؟ وكيف يحاربون تغييرات أخرى؟ وهل ثمة تناغم بين الحركتين، أم أنه شكل من أشكال الصراع اللغوي؟(ينظر الإشارة إلى هذه الجدلية عند ديدييه دي روبيارد في مادة (normalisation) من كتاب اللسانيات الاجتماعية لماري لويز مورو، ص214-215).
.
إن جدلية المعيار والتنوع لا تقتصر على التنظيم اللغوي، بل هي جدلية تتعلق بكل منظومة، سواء كانت اجتماعية من النوع الأدنى(كالأسرة مثلا) أو سياسية(كنظام الحكم)، وقد عرف التاريخ وقائع تاريخية تجلت فيها هذه الجدلية بوضوح كبير، كصراع (monarchie vs anarchie) في أثناء الثورة الفرنسية، والذي جسد التجاذبات بين الاحتفاظ بالمنظومة القديمة ومحاولة تأسيس منظومة جديدة انطلاقا من هدم المعايير المستقرة. بل ربما كانت الثورة الفرنسية من هذه الزاوية مصدر إلهام للتفكير النظري في هذه القضية، كيف لا، وهي التي وفرت الغطاء السياسي والأخلاقي لأكثر التغيّرات التي عرفتها الثقافة في فرنسا خصوصا وأوروبا عموما، والتي ثارت على الإطار الكنسي للمعرفة.
.
لقد كان كلامنا عن مفهوم المعيار في الحلقات السابقة متلبسا بالفهم السوسيولوجي وأحيانا النفسي له، مع بعض الاقتراب من ميدان اللغة الذي هو محل اهتمامنا، والغرض من ذلك أن نساعد أنفسنا أولا على تحقيق فهم "أوسع" لمفهوم المعيار، وأن نتجاوز ضيق الزاوية اللغوية التي قد تصير عائقا للفهم إذا انكفأنا عليها وولينا ظهورنا للحقائق النفسية والمعرفية والاجتماعية للمعيار. وسنحاول في حلقات مقبلة أن نقدم قراءة سريعة لمعيارية اللغة في بعض المراجع المهتمة بالموضوع، وعلى جهة الخصوص في ميداني: النحو الوصفي والمعياري، واللسانيات الاجتماعية، ونعرّج بعد ذلك على تتبع بعض مظاهر المعيارية في علوم اللغة العربية، وكيف حدد علماء العربية المعيار اللغوي المسمى "العربية الفصحى"، وما هي مبرراته الثقافية والعلمية؟ إذ كان هو الغرض الأول، وبه تتحقق المقارنة المرجوة مع علوم الشريعة، والله الموفق.

يتبع إن شاء الله.

BY قناة الأحمدي-أمين قادري


Share with your friend now:
tgoop.com/fwdadab/468

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

Content is editable within two days of publishing How to Create a Private or Public Channel on Telegram? It’s yet another bloodbath on Satoshi Street. As of press time, Bitcoin (BTC) and the broader cryptocurrency market have corrected another 10 percent amid a massive sell-off. Ethereum (EHT) is down a staggering 15 percent moving close to $1,000, down more than 42 percent on the weekly chart. Your posting frequency depends on the topic of your channel. If you have a news channel, it’s OK to publish new content every day (or even every hour). For other industries, stick with 2-3 large posts a week. Polls
from us


Telegram قناة الأحمدي-أمين قادري
FROM American