FWDADAB Telegram 467
في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(4)
.
.
كيف يصير لظاهرةٍ ما معيار؟ ومن أين يكتسب هذا المعيار سلطته وشرعيته؟ لا بد أن نميّز أولا بين ثلاثة أنواع من الموضوعات التي يمكن أن يدور عليها العلم، وهي: الموضوع الطبيعي، والموضوع الاجتماعي، والموضوع الفكري. هذه الموضوعات الثلاثة تميّز لنا بين ثلاثة مستويات للوجود الإنساني: وهي الوجود الطبيعي الذي يخضع فيه الإنسان لوجود قبلي، والوجود الاجتماعي الذي يشعر فيه الإنسان بقيمته التفاعلية، والوجود الفكري الذي يتمكن به الإنسان من إدراك نفسه ومن إدراك ما حوله(ولعل في هذا الأخير تقريبا لدلالة الكوجيتو الديكارتي: أنا أفكر إذن أنا موجود).
.
وعلى اختلاف هذه الموضوعات الثلاثة تختلف وظيفة العلم الذي يدرسها ويدور عليها، فالموضوع الطبيعي يحتاج علما تجريبيا يبحث في القوانين، والموضوع الاجتماعي يحتاج علما استنباطيا يبحث في القواعد، والموضوع الفكري يحتاج علما تفسيريا يبحث في المعاني(وثلثا هذا التقسيم على الأقل يرجعان إلى غيرتز في أنثروبولوجيته الثقافية). ومع أننا لا ننفي قدرا من التداخل بين مناهج الدوائر الثلاث، فإن هذا الذي ذكرناه هو أهم مميزات ما يسمى عادة: العلوم المحضة، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الإنسانية.
.
وإن كان ثمة علمان من الصعب الاتفاق على الحدود الفارقة بينهما فهما العلم الاجتماعي والعلم الإنساني، ذلك أن كل القواعد الاجتماعية تملك أوليات فكرية، خدمتها ظروف تاريخية معينة، ونقلتها من حيز الفكرة الفردية إلى دائرة التوافق الجماعي، ولذلك فالحديث عن علوم اللغة –مثلا- على أنها علوم إنسانية أو علوم الاجتماعية هو حديث نظري أكثر منه رصدا واقعيا، ذلك أن فكرة الحدود بين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية كما سبق أن ذكرنا ليست محل اتفاق بين علماء الدائرتين أنفسهم، واللغة من بين كل موضوعاتهما أكثرها إشكالية، إذ من الصعب تصور اللغة باعتبارها موضوعا إنسانيا(أي باعتبار الإنسان إنسانا) بعيدا عن هيمنة وظيفتها التواصلية، التي تضعها في صلب فكرة الاجتماع الإنساني(ولا تقتصر هذه المحورية على فكرة التواصل، بل تتعداها إلى فكرة الهوية، وبالتالي الحدود اللغوية للجماعات الإنسانية، وهكذا نجد أنفسنا نمارس تحليلا اجتماعيا بامتياز).
.
نرجع مرة أخرى إلى قضية سلطة المعيار. يكتسب المعيار الاجتماعي سلطته من مبدأي التمايز والتوافق، وهما المبدآن اللذان تتأسس عليهما الهوية، تمايز هوية عن أخرى وهو ما يصنع المعايير، والانتماء إلى هوية معينة وهو ما يصنع سلطة المعيار. إن إعلان الانتماء إلى أي جماعة يبقى دعوى، ولا تثبت هذه الدعوى عند الجماعة إلا بعد الانخراط العملي في المعيار: معيار الدين واللغة والأعراف والنظم وغير ذلك من المعايير الاجتماعية التي تمتد إلى الطعام واللباس وطريقة المشي وقواعد العمران. وقد تدعم سلطة المعيار الجماعية وتعضد عن طريق العقوبات المعنوية(الحرمان من التواصل) أو الحسية(الطرد من الجماعة، السجن، الغرامات، العقوبات البدنية) وهكذا.
.
فالانتماء للمعيار أو الانسلاخ منه يأخذ دلالته على اختلاف نوع المعيار نفسه، وعلى اختلاف النظم الاجتماعية والسياسية طبيعة وتعقدا، من مجرد إعلان بمفارقة الجماعة اختياريا ومن غير تبعات، إلى إعلان العصيان الداخلي أو التمرد، إلى مفهوم الخيانة. وكلما كانت العلاقات بين الجماعات المتجاورة أو المتصادمة أكثر تشنجا، صارت المعايير أكثر دلالة، وبالتالي أكثر سلطة، وكلما كان هناك استعداد أكبر للتشذر والتشظي كان هناك قابلية أكبر لتحويل مظاهر معينة(قد تكون تافهة) إلى معايير.
.
وفق هذا المفهوم يمكننا أن نتبين أسباب معيارية اللغة، فاللغة هي أحد أهم مظاهر التمييز الاجتماعي، وكم كنا منشغلين ونحن نقرأ تعريف ابن جني في الخصائص(1/33) للغة بأنها: "أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم" بمسألة (الأصوات) ومسألة (التعبير)، غافلين عن قضية (كل قوم)، هذا الحد الفاصل من حدود التعريف الذي يكشف عن دور اللغة في تشكيل الهويات المتمايزة، فحقيقة اللغة هي حقيقة جماعية، لا فردية، ومنه نستنتج استنتاجا مهما: هو أن كل خرق للمعيار اللغوي ليس له أي غرض فردي، وإنما هو دائما ذو أبعاد جماعية: تأسيس معيار بديل، أو إعلان الانشقاق عن الجماعة الأولى عبر معيار مختلف.
.
ومن هنا، يمكننا أن نفهم أن دراسة اللغة بعيدا عن "معياريتها"، هو تحريف لوجهة البحث من أول خطوة، لأنه استبعاد لما يعطي اللغة قيمتها الاجتماعية، وتعتيم لحدٍّ فاصل من حدود تعريفها وفهمها. وآمل أن يكون هذا الاستنتاج أول خطوة لتصحيح موقع مفهوم المعيارية من البحث العلمي عموما، والبحث اللغوي خصوصا، ويبقى علينا بعد ذلك أن نحرر الفروق العملية بين "دراسة المعيار"(l’étude de la norme)، و"الدراسة المعيارية"(l’étude prescriptive). وهو ما سنعالجه بإذن الله في مرحلة قابلة من هذه الكتابات.

يتبع إن شاء الله.



tgoop.com/fwdadab/467
Create:
Last Update:

في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(4)
.
.
كيف يصير لظاهرةٍ ما معيار؟ ومن أين يكتسب هذا المعيار سلطته وشرعيته؟ لا بد أن نميّز أولا بين ثلاثة أنواع من الموضوعات التي يمكن أن يدور عليها العلم، وهي: الموضوع الطبيعي، والموضوع الاجتماعي، والموضوع الفكري. هذه الموضوعات الثلاثة تميّز لنا بين ثلاثة مستويات للوجود الإنساني: وهي الوجود الطبيعي الذي يخضع فيه الإنسان لوجود قبلي، والوجود الاجتماعي الذي يشعر فيه الإنسان بقيمته التفاعلية، والوجود الفكري الذي يتمكن به الإنسان من إدراك نفسه ومن إدراك ما حوله(ولعل في هذا الأخير تقريبا لدلالة الكوجيتو الديكارتي: أنا أفكر إذن أنا موجود).
.
وعلى اختلاف هذه الموضوعات الثلاثة تختلف وظيفة العلم الذي يدرسها ويدور عليها، فالموضوع الطبيعي يحتاج علما تجريبيا يبحث في القوانين، والموضوع الاجتماعي يحتاج علما استنباطيا يبحث في القواعد، والموضوع الفكري يحتاج علما تفسيريا يبحث في المعاني(وثلثا هذا التقسيم على الأقل يرجعان إلى غيرتز في أنثروبولوجيته الثقافية). ومع أننا لا ننفي قدرا من التداخل بين مناهج الدوائر الثلاث، فإن هذا الذي ذكرناه هو أهم مميزات ما يسمى عادة: العلوم المحضة، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الإنسانية.
.
وإن كان ثمة علمان من الصعب الاتفاق على الحدود الفارقة بينهما فهما العلم الاجتماعي والعلم الإنساني، ذلك أن كل القواعد الاجتماعية تملك أوليات فكرية، خدمتها ظروف تاريخية معينة، ونقلتها من حيز الفكرة الفردية إلى دائرة التوافق الجماعي، ولذلك فالحديث عن علوم اللغة –مثلا- على أنها علوم إنسانية أو علوم الاجتماعية هو حديث نظري أكثر منه رصدا واقعيا، ذلك أن فكرة الحدود بين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية كما سبق أن ذكرنا ليست محل اتفاق بين علماء الدائرتين أنفسهم، واللغة من بين كل موضوعاتهما أكثرها إشكالية، إذ من الصعب تصور اللغة باعتبارها موضوعا إنسانيا(أي باعتبار الإنسان إنسانا) بعيدا عن هيمنة وظيفتها التواصلية، التي تضعها في صلب فكرة الاجتماع الإنساني(ولا تقتصر هذه المحورية على فكرة التواصل، بل تتعداها إلى فكرة الهوية، وبالتالي الحدود اللغوية للجماعات الإنسانية، وهكذا نجد أنفسنا نمارس تحليلا اجتماعيا بامتياز).
.
نرجع مرة أخرى إلى قضية سلطة المعيار. يكتسب المعيار الاجتماعي سلطته من مبدأي التمايز والتوافق، وهما المبدآن اللذان تتأسس عليهما الهوية، تمايز هوية عن أخرى وهو ما يصنع المعايير، والانتماء إلى هوية معينة وهو ما يصنع سلطة المعيار. إن إعلان الانتماء إلى أي جماعة يبقى دعوى، ولا تثبت هذه الدعوى عند الجماعة إلا بعد الانخراط العملي في المعيار: معيار الدين واللغة والأعراف والنظم وغير ذلك من المعايير الاجتماعية التي تمتد إلى الطعام واللباس وطريقة المشي وقواعد العمران. وقد تدعم سلطة المعيار الجماعية وتعضد عن طريق العقوبات المعنوية(الحرمان من التواصل) أو الحسية(الطرد من الجماعة، السجن، الغرامات، العقوبات البدنية) وهكذا.
.
فالانتماء للمعيار أو الانسلاخ منه يأخذ دلالته على اختلاف نوع المعيار نفسه، وعلى اختلاف النظم الاجتماعية والسياسية طبيعة وتعقدا، من مجرد إعلان بمفارقة الجماعة اختياريا ومن غير تبعات، إلى إعلان العصيان الداخلي أو التمرد، إلى مفهوم الخيانة. وكلما كانت العلاقات بين الجماعات المتجاورة أو المتصادمة أكثر تشنجا، صارت المعايير أكثر دلالة، وبالتالي أكثر سلطة، وكلما كان هناك استعداد أكبر للتشذر والتشظي كان هناك قابلية أكبر لتحويل مظاهر معينة(قد تكون تافهة) إلى معايير.
.
وفق هذا المفهوم يمكننا أن نتبين أسباب معيارية اللغة، فاللغة هي أحد أهم مظاهر التمييز الاجتماعي، وكم كنا منشغلين ونحن نقرأ تعريف ابن جني في الخصائص(1/33) للغة بأنها: "أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم" بمسألة (الأصوات) ومسألة (التعبير)، غافلين عن قضية (كل قوم)، هذا الحد الفاصل من حدود التعريف الذي يكشف عن دور اللغة في تشكيل الهويات المتمايزة، فحقيقة اللغة هي حقيقة جماعية، لا فردية، ومنه نستنتج استنتاجا مهما: هو أن كل خرق للمعيار اللغوي ليس له أي غرض فردي، وإنما هو دائما ذو أبعاد جماعية: تأسيس معيار بديل، أو إعلان الانشقاق عن الجماعة الأولى عبر معيار مختلف.
.
ومن هنا، يمكننا أن نفهم أن دراسة اللغة بعيدا عن "معياريتها"، هو تحريف لوجهة البحث من أول خطوة، لأنه استبعاد لما يعطي اللغة قيمتها الاجتماعية، وتعتيم لحدٍّ فاصل من حدود تعريفها وفهمها. وآمل أن يكون هذا الاستنتاج أول خطوة لتصحيح موقع مفهوم المعيارية من البحث العلمي عموما، والبحث اللغوي خصوصا، ويبقى علينا بعد ذلك أن نحرر الفروق العملية بين "دراسة المعيار"(l’étude de la norme)، و"الدراسة المعيارية"(l’étude prescriptive). وهو ما سنعالجه بإذن الله في مرحلة قابلة من هذه الكتابات.

يتبع إن شاء الله.

BY قناة الأحمدي-أمين قادري


Share with your friend now:
tgoop.com/fwdadab/467

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

Invite up to 200 users from your contacts to join your channel Hashtags are a fast way to find the correct information on social media. To put your content out there, be sure to add hashtags to each post. We have two intelligent tips to give you: Judge Hui described Ng as inciting others to “commit a massacre” with three posts teaching people to make “toxic chlorine gas bombs,” target police stations, police quarters and the city’s metro stations. This offence was “rather serious,” the court said. “Hey degen, are you stressed? Just let it all out,” he wrote, along with a link to join the group. With the administration mulling over limiting access to doxxing groups, a prominent Telegram doxxing group apparently went on a "revenge spree."
from us


Telegram قناة الأحمدي-أمين قادري
FROM American