tgoop.com/fwdadab/463
Last Update:
في معيارية العلم-تناظرات بين علوم اللغة وعلوم الشريعة(1)
.
.
أهم الكتابات في تاريخ الفكر الإنساني هي دوما تلك التي تستفز الحوار العلمي الجاد والمثمر. وهذه الكتابات لا تقاس بكمّها ولا بسياق طرحها، بقدر ما تقاس بحصافتها: والحصافة(pertinence) هي تلك الحالة التي تقع فيها الكلمات على الموضوعات المستحقة فعلا للاستماع أو القراءة، ثم البحث والمعالجة. وحين تعرضت الأستاذة الفاضلة أ.د. وسيلة خلفي لقضية المعيارية المميزة لعلم أصول الفقه، وأشارت في الوقت نفسه للتقاطعات مع علم النحو العربي في هذه القضية؛ كان ذلك محفزا لي للعودة إلى تقييد بعض الأفكار المتعلقة بهذا الموضوع، والتي سبق إلى تجليتها ورفع الكثير من حجب الوهم عنها أستاذنا أستاذ الجيل العلامة الحاج صالح رحمه الله تعالى.
.
وقد كان منطلق الأستاذ الحاج صالح في معالجة هذه القضية منطلقا حواريا-نقديا، دفعه إليه بحثه الواسع المسمى بـ: "اللسانيات العربية واللسانيات العامة"، ولم يكن ممكنا تجاوز هذه القضية لأنها تقع في نقطة صدام اللسانيات الحديثة المسماة بالسوسورية بالدرس اللغوي الأوروبي ما قبل السوسوري وألقت بظلالها على قراءة الدرس اللغوي العربي القديم عند كثير من الأساتذة العرب، فاللسانيات الحديثة قدمت مشروعها العلمي القائم على مجموعة من الأسس المنهجية التي من أهمها: "الوصفية" في مقابل: "المعيارية"(وننبه هنا إلى أننا في سياق تاريخي معرفي أوروبي، ولمّا نعرّجْ على السياق التاريخي المعرفي العربي الإسلامي). فقد تلمّس فرديناند دي سوسور مجموعة السمات المنهجية التي رآها تخل بموضوعية النتائج العلمية للبحث اللساني. وحدد المعيارية واحدة من هذه السمات.
.
غير أنه ينبغي أن نقف عند المفهوم المنطوي تحت مصطلح "normativité"، وأن نتساءل عن السبب الذي من أجله رأى سوسور والبنويون من بعده أن المعيارية حاجب للحقيقة الموضوعية المتعلقة باللسان. وباختصار يمكن أن نقول: إن الصراع المعرفي في دراسة اللغة عند سوسور كان صراع المثال والواقع: أي صراع رؤية اللغة كما تفترضها المقررات العلمية والتعليمية، واللغة كما هي مستعملة بالفعل بين المتكلمين في المجتمع. فالمؤسسة العلمية والثقافية تفترض دوما أنموذجا لغويا يتم التواصل من خلاله، وهذا الأنموذج يتم تقريره وتثبيته من خلال توظيفه والكتابة به، فهناك أثر متبادل بين اللغة والمعرفة، ففي الوقت الذي تعمل فيه اللغة على توثيق المعرفة الإنسانية المنتجة، تُبادل هذه المعرفة اللغة الأثر فتعمل على توثيقها وتثبيت مُثُلها عن طريق الكتابة. وأما خارج أسوار المؤسسة العلمية والثقافية، فإن اللغة تتفلت عن هذا التوثيق، وتجد مجالا أرحب للاستعمال وللتغير.
.
وبالتالي، فإن قدرة الباحث على تحديد المعايير ضمن لغة المؤسسة أكبر من قدرته على تحديدها في اللغة الحية، حيث يجد الباحث نفسه أمام اللغة الحية واصفا وراصدا لمسارات اللغة من خلال استعمالات المتكلمين لها. وهذا الفرق قد يضيق في مجتمعات معينة، ويتسع في مجتمعات أخرى لأسباب متنوعة أهمها الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية(ولعل فرصة تعرض لنا لتوضيح هذه المسألة المهمة)، فكلما كانت الثقافة أكثر شفاهية كان المنهج الوصفي أقدر على تحقيق نتائج علمية، وكلما كانت الثقافة أكثر كتابية كان نفوس الباحثين أكثر إغراء بموضع المعايير.
.
وبالتالي فإن المسافات التي تفصل بين المعيارية والوصفية ليست مسافات ثابتة، بل لها تعلق بمتغيرات اجتماعية وثقافية أخرى. وهذه الملاحظة مهمة جدا، لأنها ستسمح لنا باتخاذ موقف معتدل في مسألة المعيارية، وستمكننا من فهم أسباب تحوّل المعيارية إلى "تهمة"، عوض التعامل معها على أنها "حالة" أو "منظور علمي"، تدخل في جدلية مع الوصفية، وأحيانا تدخل في تناوبية معها.
.
أختم هذا المنشور بملحوظة سريعة عن كلمة (تناظرات) التي وظفتها في العنوان، مشيرا إلى أنني لا أريد بها المعنى الهندسي، وإنما مطلق الدلالة اللغوية التي هي تبادل النظر، إذ سيهمنا أن ننظر إلى معيارية أصول الفقه من المنطلق اللساني، كما سنحاول فهم رؤية الأصوليين لمعيارية اللسانيات العربية خصوصا ممثلة في علم النحو وأصوله، سائلين الله تعالى التوفيق والسداد، مستمنحين منه الهداية والرشاد، آملين أن تكون هذه المحاورة سببا لتثوير الصلات العلمية بين العلوم الإسلامية لنرجع مرة أخرى إلى أنموذج "مسجد البصرة"، حيث يتقابل الخليل النحوي، وأبو عمرو القارئ، وابن سيرين الفقيه، وابن أبي عروبة المحدّث، لتأسيس الجامعة الإسلامية.
يتبع إن شاء الله.
BY قناة الأحمدي-أمين قادري
Share with your friend now:
tgoop.com/fwdadab/463