SIRSIR888 Telegram 10627
#يوميات_طبيب_امتياز

عندما أخرجوا المريضة من غرفة العمليات قالوا: يجب أن تدخل العناية المكثفة.

وأهل العناية المكثفة قالوا: العناية ستكون خارج الخدمة لـ ٢٤ ساعة لأسباب تعقيمية وتطهيرية.

فقلنا لهم: وأين ستقضي المريضة ليلتها؟

قالوا: لا حل غير العنبر العام.

وقال الأخصائي الذي يرأسُنا: إذن يجب أن يبيت طبيب امتياز معها في العنبر العام.

فقلنا: وماذا سيفعل طبيب الامتياز في العنبر العام؟

فقال: يشتغل كجهاز المونيتور؛ يقيس النبض والضغط والسكر والأوكسجين ومعدل التنفس ويصحح ما يجب أن يُصَحح.

فوقع الاختيار عَلَيّ، ربما لأنني أظهرتُ استعدادًا مسبَقًا للأمر واهتمامًا خاصًا، لأن المريضة في النهاية مريضتي أنا، فأنا من فتحت ملفها وملأتُه وحضرتها للعملية وهكذا، كنت أعلم أن الأمر صعب، فقياس العلامات الحيوية كل ١٥ دقيقة شيء مضنٍ ومتعب ومُهلك، خصوصًا في الليل،
وفي المشفى ليلاً ينامُ كل الناس ما عدا المرضى، وفي المشفى ليلاً يعلو الابتهال والتضرع والأنين وتزداد حساسية المرافقين تجاه أي تغيير يحصل لمرضاهم، هذا يعني مزيدًا من الضغط على كل طبيبٍ مستيقظ أو ممرض، لكن الذي لم أتوقعه بالمرة هو مدى صعوبة التواصل الذي كان ينتظرني مع مريضتي التي لا تعرف شيئًا بالعربية ولا مرافقتها، التي هي أمها، تتحدثان فقط بلغة محلية صرفة، ونسيت أن الشخص الوحيد الذي كان يعرف العربية في جوقة المرافقين الذي جاؤوا مع المريضة من خارج المدينة هو زوجها والذي لم يكن موجودًا في المشفى ذلك الليل.
إذن لكم أن تتخيلوا هذا العنبر الذي به خمس سيدات خارجاتٍ من عمليات مختلفة، كل واحدةٍ فيهن من جهةٍ ما من هذه البلاد العريضة، لكن ولا واحد من المستيقظين في الغرفة كان قادرًا على ترجمة ما تقوله لي مرافقة مريضتي أو ما تقوله مريضتي حتى:
أسألهما:

في شكوى؟

حاسة بألم؟

دايرة شنو؟

بنتك قعد تقول شنو؟

والنساء الأخريات ما بين متكوّعات يتابعن حديثنا اللا مفيد وبين متوجعات يطلبن التخفيف، في الليل، حيث الشبابيك مشرعة على الظلام والنسيم وهمس النجوم ونبيح الكلاب البعيدة، تزداد شاعرية كل شيء، حتى تقطير الدم على الأرض يحرك أوتارًا ذات حساسية عالية، وأنا في ورطة.

فمريضتي المنهكة جدًا لا تفهمني

وهي أيضًا تشكو أشياء كثيرة لأمها لا أفهمها

وأمها، تجتهد في محاولة إفهامي ولكنها تجيبني بكلام لا أفهمه

والنساء الصاحيات يحاولن التقاط معانٍ دلالية من حركات يدها وإيماءاتها

وأنا احترت كثيرًا في كيفية التعامل معهما، قلت سأبحث عن ممرضة من أهل البلد الأصليين لتشتغل معي ترجمانًا في آخر الليل، ولما أيقظت الممرضة من استراحة الممرضين قلت لها إنني آسف حقًا لإيقاظك في هذا الوقت، لكني في ورطة حقيقية، فمريضتي التي أُخرجت توًا من العمليات لا تعرف العربية ولا مرافقوها ولا أحد جيرانها في العنبر. قالت لي: إن مريضتك هدندوية وأنا بني عامرية، لا أفهم لغتهم. لو كانت بني عامرية كنت سأفيدك بالتأكيد.
شكرتها، ورجعت إلى مريضتي حائرًا. ولما جلستُ على الكرسي وسط الأسِرّة المتقابلة في شكل مربع في تلك الغرفة الكبيرة أحسستُ بمعنى أن يكون التواصل صعبًا، اختلاف اللغة واللسان والخلفية كان حاجزًا هائلاً ومضنيًا، لم ألُم المريضة ولا أمها ولا مرافقيها، ولم ألُم نفسي أيضًا، فهي لغتهم وحاملُهم الإرثي والثقافي ولا يجب عليهم أبدًا تركها أو تحريفها، إنه أشبه بمثل أن يلومني شخص يتحدث بالقشتالية لمجرد أني لا أعرف القشتالية ولمجرد أني فقط أتكلم لغتي التي ولدتُ وأنا أسمع أصواتها وأتماهى مع ما تحمله كلغة ويتحدث بها أهلي وناسي وأصحابي، لكن الأحق باللوم هي المشفى والتي إن كانت مشفى محترمًا كمشافي بلاد بَرة، لكانت قد وفقت مترجمين لمثل هذه الحالات، والتي هي كثيرة جدًا، لا تتخيلون كم هو أمر صعب أن تأخذ تاريخًا مرضيًا بأكلمه من شخصٍ لا يفهمك ولا تفهمه، ولا أحد فيكما يملك الحق في لوم الآخر حول: لماذا لا تفهمني؟ لماذا لا تتحدث لغتي؟، هذا النوع من التواصل الغير مفيد أو المتعب يكون خصمًا على الخدمة التي تقدمها المستشفى فهو: يؤخر عملية التطبيب، يضلل الوصول إلى تشخيصٍ صحيح، يكون مستهلِكًا للوقت والطاقة، يقلل تقديم العلاج بالكفاءة المطلوبة. تخيلوا! كل هذا بسبب انعدام التواصل والذي أصبح يملك صورًا شتى في هذا اليوم، ليس في صورة لغة مقابل لغة وحسب، بل حتى بين أبناء اللسان الواحد في صورته الجوهرية، أعني، حتى وهم يتكلمون فيما بينهم.

•مستشفى الأمير دقنة المرجعي، ديسمبر ٢٠٢٣
•مصطفى خالد مصطفى



tgoop.com/sirsir888/10627
Create:
Last Update:

#يوميات_طبيب_امتياز

عندما أخرجوا المريضة من غرفة العمليات قالوا: يجب أن تدخل العناية المكثفة.

وأهل العناية المكثفة قالوا: العناية ستكون خارج الخدمة لـ ٢٤ ساعة لأسباب تعقيمية وتطهيرية.

فقلنا لهم: وأين ستقضي المريضة ليلتها؟

قالوا: لا حل غير العنبر العام.

وقال الأخصائي الذي يرأسُنا: إذن يجب أن يبيت طبيب امتياز معها في العنبر العام.

فقلنا: وماذا سيفعل طبيب الامتياز في العنبر العام؟

فقال: يشتغل كجهاز المونيتور؛ يقيس النبض والضغط والسكر والأوكسجين ومعدل التنفس ويصحح ما يجب أن يُصَحح.

فوقع الاختيار عَلَيّ، ربما لأنني أظهرتُ استعدادًا مسبَقًا للأمر واهتمامًا خاصًا، لأن المريضة في النهاية مريضتي أنا، فأنا من فتحت ملفها وملأتُه وحضرتها للعملية وهكذا، كنت أعلم أن الأمر صعب، فقياس العلامات الحيوية كل ١٥ دقيقة شيء مضنٍ ومتعب ومُهلك، خصوصًا في الليل،
وفي المشفى ليلاً ينامُ كل الناس ما عدا المرضى، وفي المشفى ليلاً يعلو الابتهال والتضرع والأنين وتزداد حساسية المرافقين تجاه أي تغيير يحصل لمرضاهم، هذا يعني مزيدًا من الضغط على كل طبيبٍ مستيقظ أو ممرض، لكن الذي لم أتوقعه بالمرة هو مدى صعوبة التواصل الذي كان ينتظرني مع مريضتي التي لا تعرف شيئًا بالعربية ولا مرافقتها، التي هي أمها، تتحدثان فقط بلغة محلية صرفة، ونسيت أن الشخص الوحيد الذي كان يعرف العربية في جوقة المرافقين الذي جاؤوا مع المريضة من خارج المدينة هو زوجها والذي لم يكن موجودًا في المشفى ذلك الليل.
إذن لكم أن تتخيلوا هذا العنبر الذي به خمس سيدات خارجاتٍ من عمليات مختلفة، كل واحدةٍ فيهن من جهةٍ ما من هذه البلاد العريضة، لكن ولا واحد من المستيقظين في الغرفة كان قادرًا على ترجمة ما تقوله لي مرافقة مريضتي أو ما تقوله مريضتي حتى:
أسألهما:

في شكوى؟

حاسة بألم؟

دايرة شنو؟

بنتك قعد تقول شنو؟

والنساء الأخريات ما بين متكوّعات يتابعن حديثنا اللا مفيد وبين متوجعات يطلبن التخفيف، في الليل، حيث الشبابيك مشرعة على الظلام والنسيم وهمس النجوم ونبيح الكلاب البعيدة، تزداد شاعرية كل شيء، حتى تقطير الدم على الأرض يحرك أوتارًا ذات حساسية عالية، وأنا في ورطة.

فمريضتي المنهكة جدًا لا تفهمني

وهي أيضًا تشكو أشياء كثيرة لأمها لا أفهمها

وأمها، تجتهد في محاولة إفهامي ولكنها تجيبني بكلام لا أفهمه

والنساء الصاحيات يحاولن التقاط معانٍ دلالية من حركات يدها وإيماءاتها

وأنا احترت كثيرًا في كيفية التعامل معهما، قلت سأبحث عن ممرضة من أهل البلد الأصليين لتشتغل معي ترجمانًا في آخر الليل، ولما أيقظت الممرضة من استراحة الممرضين قلت لها إنني آسف حقًا لإيقاظك في هذا الوقت، لكني في ورطة حقيقية، فمريضتي التي أُخرجت توًا من العمليات لا تعرف العربية ولا مرافقوها ولا أحد جيرانها في العنبر. قالت لي: إن مريضتك هدندوية وأنا بني عامرية، لا أفهم لغتهم. لو كانت بني عامرية كنت سأفيدك بالتأكيد.
شكرتها، ورجعت إلى مريضتي حائرًا. ولما جلستُ على الكرسي وسط الأسِرّة المتقابلة في شكل مربع في تلك الغرفة الكبيرة أحسستُ بمعنى أن يكون التواصل صعبًا، اختلاف اللغة واللسان والخلفية كان حاجزًا هائلاً ومضنيًا، لم ألُم المريضة ولا أمها ولا مرافقيها، ولم ألُم نفسي أيضًا، فهي لغتهم وحاملُهم الإرثي والثقافي ولا يجب عليهم أبدًا تركها أو تحريفها، إنه أشبه بمثل أن يلومني شخص يتحدث بالقشتالية لمجرد أني لا أعرف القشتالية ولمجرد أني فقط أتكلم لغتي التي ولدتُ وأنا أسمع أصواتها وأتماهى مع ما تحمله كلغة ويتحدث بها أهلي وناسي وأصحابي، لكن الأحق باللوم هي المشفى والتي إن كانت مشفى محترمًا كمشافي بلاد بَرة، لكانت قد وفقت مترجمين لمثل هذه الحالات، والتي هي كثيرة جدًا، لا تتخيلون كم هو أمر صعب أن تأخذ تاريخًا مرضيًا بأكلمه من شخصٍ لا يفهمك ولا تفهمه، ولا أحد فيكما يملك الحق في لوم الآخر حول: لماذا لا تفهمني؟ لماذا لا تتحدث لغتي؟، هذا النوع من التواصل الغير مفيد أو المتعب يكون خصمًا على الخدمة التي تقدمها المستشفى فهو: يؤخر عملية التطبيب، يضلل الوصول إلى تشخيصٍ صحيح، يكون مستهلِكًا للوقت والطاقة، يقلل تقديم العلاج بالكفاءة المطلوبة. تخيلوا! كل هذا بسبب انعدام التواصل والذي أصبح يملك صورًا شتى في هذا اليوم، ليس في صورة لغة مقابل لغة وحسب، بل حتى بين أبناء اللسان الواحد في صورته الجوهرية، أعني، حتى وهم يتكلمون فيما بينهم.

•مستشفى الأمير دقنة المرجعي، ديسمبر ٢٠٢٣
•مصطفى خالد مصطفى

BY Al-Sirdab - الــسِّــرداب


Share with your friend now:
tgoop.com/sirsir888/10627

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

But a Telegram statement also said: "Any requests related to political censorship or limiting human rights such as the rights to free speech or assembly are not and will not be considered." How to create a business channel on Telegram? (Tutorial) Add up to 50 administrators Add the logo from your device. Adjust the visible area of your image. Congratulations! Now your Telegram channel has a face Click “Save”.! To view your bio, click the Menu icon and select “View channel info.”
from us


Telegram Al-Sirdab - الــسِّــرداب
FROM American