tgoop.com/ciiuv/1571
Last Update:
أدرك البدو في صحراءهم المتشاسعة منذ الأزل أن الشاعر شخص آخر غير ذلك الذي تجري القصيدة على لسانه وتُنسب له دائمًا، فهم عندما يطلبون من شاعر ما قصيدة له يقولون: "ماذا يقول الشاعر؟"، فيبدأ الشاعر بكلمة "يقول" في توافق ضمني على أن مُلقي القصيدة غير شاعرها.
وهذا وعي دقيق بالحالة الشعرية وإن لم يكن إدراكًا صريحًا، حيث أن القصيدة تنبت في لا وعي صاحبها وتكتسب معارفها ولغتها وتصوراتها وقيمها من ذلك الوعي الذي لا يُمثل بالضرورة صاحبه الذي تجري على لسانه بل هو متعدي للوعي الجمعي الذي يُعبر عنه، فهم لا يؤاخذون الشاعر على فحشه في الغزل، ولا على قُبحه في الهجاء، ولا يُحاكمونه على منظومته الأخلاقية التي يعبر عنها، فالنص الشعري لدى البدو -وهم نسخة العرب الأصلية- منتج اجتماعي متجاوز للفرد، ومُعبر عن حالاتهم المشتركة، وتفكيرهم الجمعي، فلا عجب وأسلافهم كانوا يحتفون بالشاعر المُجيد إن ظهر فيهم، يُصدرونه في مجالسهم، ويُقدمونه في مشاهدهم، ليس لأنه يُنافح عنهم بالضرورة ولكن لأنه يُعبر عنهم ويأخذ الكلام من ألسنتهم والأفكار من رؤوسهم، فهو هم بأكملهم في كينونةٍ واحد.
ولا يزال الشاعر شخصيةً اعتبارية في المخيال البدوي، وفي الحياة الاجتماعية، يؤدب الصغار، وتقتدي به الشبيبة، وينطقُ بما تؤمن به السادة وتُصنع به القيمة، وإن لم يكن فعله يوافق قوله، فالشاعر غير الشخص الذي يتلبسه وينطق بكلامه.
هذا الفصل السليقي بين الشاعر وحامله يتعامل معه العقل البدوي بتلقائية تامة لأن الشعر مُنتجه الحضاري الأبرز فلا يجد إشكالاً في تلقيه واستيعابه وفهم ظلاله، كما يظهر عند النقاد الذين نبتوا في غير بيئته أو استنبتوا في بيئته بقوّة الشهادة العلمية والاعتبار الأكاديمي، فقليلٌ أولئك الذين يُمسكون هذا الخيط الدقيق الذي يُمسكه البدوي في صحرائه سليقةً ليذهب به إلى لُب العمل الشعري دون التعثر في عتبات صاحبه.
ولا عجب إن وجدت نفور البدو من القراءة النقدية، أو محاكمة النص وفق القواعد النقدية العلمية، سواءً شاعرهم أو متلقيهم فهذه طبيعتهم مع كل مِهنة، ولذلك اشتقوا لها اسمها من المَهَن وهو الامتهان والاحتقار، فهم منحازون بفطرتهم نحو السليقة في كل شؤون حياتهم استجابةً لصحرائهم التي لا تعترف إلا بالفوضى المقروءة، وكانوا يستعيبون المعرفة بالكتابة والقراءة لذات السبب، كما فعل ذو الرمة مع كاتبه، ويرون التمام في الأُمية، اتساقًا مع معارفهم وعلومهم الشفوية والتي لا تبقي المرء أسيرًا لها في معيشته وحركته وتفكيره بل ويتخذون من مواليهم كُتابًا وقراءً لرسائلهم وعقودهم، ولذلك كان رسولهم في أكمل صورةٍ يرتضونها لأنفسهم.
BY صَبابَة.
Share with your friend now:
tgoop.com/ciiuv/1571
