Telegram Web
أحب أن تكون الجمعة يومًا خالصًا لله، يومًا طاهرًا لا رفثَ فيه ولا وصبَ ولا جدالَ مع الخلائق. يومًا مباركًا يصحو فيه المسلم مبكرًا ليغتسل ويتوضأ ويكثر من صلاته على النبي ﷺ، ثم يتدبر سورة الكهف ليجدد وعيه بجهله؛ بحكمة الله التي أخفاها في ثقب سفينةٍ وقتل غلامٍ وإقامة جدارٍ.

أحبها أن تكون يومًا فاصلًا من أيام الإنسان المليئة بالأشغال والأعمال والرخاء والشقاء وطول الأمل، ليجد فيها فسحةً للبكاء والدعاء لنفسه وللمسلمين، ومساحةً للتضرع والتذلل والخشوع والخضوع، فسحةً يرمي عنه فيها أثقاله وأحزانه وخيباته كاملةً وهو ساجدٌ رأسه على الأرض لملكٍ واحدٍ وإلهٍ واحدٍ وخالقٍ واحدٍ يناجيه: إنك رب المستضعفين، وأنت ربي؛ إلى من تكلنا!

ليجيبه: لبيك عبدي، أنا كافيك وناصرك.
ارتديتُ الكثير من الأقنعة أمام الناس، حتى أوشَكتُ أن آلف النسخة وأجهل الأصلَ الفريد.
أفتقد مع الوقت لياقة البدايات وحماسة التجارب؛ أتمنى لو تقذفني الحياة عنوةً في منتصف الأشياء، فأجد الحب والسكينة والسلام قد بسطَ جناحيه، بغير شقاءٍ في الطلب، ولا عناءٍ في السعي.
لأول مرة أتحدث مع صديق عزيز من "بابل" العريقة -مع حماسة أخذتني لعصر الخلافة- فتطرقنا إلى اللغة والكرد وبلاد فارس، والطائفية ومحافظات تمركز السنة والشيعة واختلاطهم في الجامعات والأسواق، وعن الظلم الواقع على بعض النساء وحرمانهم من التعليم -خصوصًا الجامعي- وتأثير القبلية على فرص الزواج، والتمست حب أهل العراق وولعهم الشديد لمصر خاصة فترة ما قبل الألفينيات.

منذ فترة جمعني حديث آخر مع شخص لطيف من الجزائر عن نفس التحديات عند المجتمع الجزائري بشأن التعليم والعمل والزواج، والاستحقاقية المتوارثة لبعض الرجال تبعًا لاختلاف الجنوب الشرقي والشمال الغربي وتقاليد كل منطقة، وفهمت أن عاداتهم تشبه كثيرًا عادات أهل الشام في ترتيبات الخطبة والعقد، وتطرقنا قليلًا للوضع السياسي والاقتصادي وأيضًا حب أهل الجزائر لأهل مصر.

العجيب في كل حديث يجمعني بصديق عربي على اختلاف اللهجات والثقافات، أجد بعضًا من التشابه في التحديات والظروف والعقبات الاجتماعية وإن اختلفت في أشكالها وتفاصيلها، وتأثير مصر الظاهر على أهل الشام والعراق والمغرب العربي خاصة في معمار القاهرة القديمة والتراث الإسلامي وقراء مصر وعلمائها، بغض النظر عن سلبيات الوضع الراهن.
من مسلمات هذا الزمان أن يسلبك لذة العيش وطيب المعاش وصفاء الفكر وسلامة الصدر، وخلاف ذلك يعد ضمنيًا من الترف الزائد وإلف النعم ووهم استحقاقها عند الناس. لذا من عواقب الاغترار، أن يغفل المرء حديث رسول الله ﷺ: «من أصبح منكم آمنًا في سربِهِ، مُعافًى في جسده، عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حيزت لَهُ الدُّنيا».
مشكلتي مع الحياة المعاصرة أنها تسلب الإنسان جوهر رحلته فيها، ينظر إلى الوراء، إلى كل الشوارع والأماكن والذكريات والتجارب التي خاضها، ليدرك أن طفولته هي آخر شيء صادق حقيقي عاشه بكل تفاصيله، بينما كل سنواته اللاحقة وهو يكبر ويدرس ويتشابك مع الواقع ومع الناس، قد سُرقت منه عنوةً، وهو يسجل حضوره العابر، رغم نضجه، بفعل القلق والحمق وخوض سباق عبثي مع الآخرين، ثم يتساءل: متى ستمنحه الحياة فرصة عادلة لكي يحيا؟!

في الحقيقة هي لن تمنحه ذلك أبدًا، ما دام قد قرر أن يعيشها عبثًا بذات الطريقة.
من أعجب ما يُرسِّخه في النفس هذا الزمان، أن أوثقَ ما تُبنى عليه صلات الإنسان وعلائقه من رباط الصداقة أو الزواج ليس بالحب فقط ولا بحُسن الطلعة ولا ببريق الكلام، بل هو التلاقي في معارج الأفكار والطباع، والتشابه في ميزان القيم، والتقارب في أصل الإيمان ومقاصده، ووحدة المنهج في النظر إلى الكون والحياة وهموم هذه الأمة حتى لا يبيت المرء غريبًا في معقد السكينة بين اثنين.
وإني وإن وجدت في إعراضك مسًّا من الجَفوة، وفي تغافلك شَوبًا من الإهمال يبعث في النفس غصةً كأنها نُكثت في الحلق، فما زلت أراك لي قرينًا في مجال السُّكون الذي تُنطِقُه الأرواح إذا عُيِّيَتِ الألسن، كأن ما بيني وبينك من التفاهم هو كالنبض الخفيّ الذي يسري في العروق. وقد كانت منك نظرةٌ ما أحوجَت إلى تكلّف، ولا استصرختْ لسانًا يترجمها، فما ذكرتك بعدها إلا تغيّرت حال نفسي، فتألقت بمسوحٍ من الجمال، وتزينت بوشاحٍ من الفضلية.
”وَالطُف بعَبدِكَ في الدَّارَين إنَّ لَهُ
صَبرًا مَتى تَدْعهُ الأهوالُ يَنهَزِمِ“.

- الخط لريحان من الجزائر
متعود أتمشى بعد منتصف الليل لفرع البيك على كورنيش الدمام، لقيت الميدالية والمفاتيح هدول عند استراحة الباص جنب مسجد جرير، خمنت تكون مفاتيح شقة أو مكتب وكنت محتار أسيبهم ولا أخدهم معايا، بعد ما مشيت شوية لم أتوقع وجود رقم هاتف بالفعل. تواصلت مع صاحبها، مصري من صوته، وكان قريب بالفعل من المكان، تقابلنا وكان الرجل طيب وواضح على وجهه الفرح الشديد، شكرني وقالي: مهندس فلان، وذهب كل منا في طريقه.

موقف بسيط ولكني مثله يذكرني دائمًا بأقدار الله وترتيبه لأمور عباده، صغيرها قبل كبيرها، وكيف يسوقهم إلى بعضهم وإن كانا غريبين في بلد آخر.
الطعنة التي لم تُميتك تصقلك، وكل طريقٍ قطعت تركت أثرها فيك وإن أخطأت الوجهة. بين مطيات التجارب يسقط عنك رويدًا تاج الغرور، فتفهم أن الأقدار وإن قَست ففي باطنها الخير المحجوب، وأن ما أخطأك وما أصابك، على حدٍ سواءٍ، تصريف من إلهٍ حكيمٍ، فلا تأس ولا تغترّ.

وكان الإنسان عجولًا.
أحاول بصعوبة تجاهل خبر الطبيبة الغزَّاوية التي فقدت أبناءها التسعة، هذه الأخبار لا تزيدني إلا نقمًا على حالي، ولكني فقدت التعجب منذ مدة، فلا أظن السابقون قد فاقوا اللاحقين من أهل غَزّة في شيءٍ بعد كل ما عاشوه من هذا الجحيم الأرضي. هناك من يقول: أن صديقه في بداية الحرب فقد 9 من أبنائه وزوجتيه، وأمه وأبيه، وإخوته الذكور الأربعة؛ اثنين منهم بعائلاتهم، وبعض أخواته البنات وعمته، كلهم دفعةً واحدةً، ولم يتبق له إلا ولدين فقط، ثم تسألني بوقاحة: كيف يطيق الإنسان أن ينام ليلته مثقلًا بهمومه الشخصية؟

هذا العالم النجس لا يليق به إلا الهلاك.
أحسب أن 90 ٪ من غوغائية السوشل ميديا، والتطرف والإقصاء الحاد عند الاختلاف، والتصدع في الثقافة والهوية العربية الإسلامية وتقديس الليبرالية الغربية، يطويها هذا الكتاب بين صفحاته؛ منذ نشأتها الأولى في تناول الأئمة الأوائل كالغزالي وابن تيمية وابن خلدون تأثير متفلسفة الإغريق، حتى هيمنة الرجل الأبيض وثقافته على عقول الشباب العربي المعاصر.
المرءُ سجينُ مَخاوفه، وقد رأيت الناس عمومًا سجناء لشيءٍ ما: للقلق والكسل وقلة الحيلة، والبيئة والمكان والدراسة، وبعضهم سجناء لآمالهم وأحلامهم التي لم يبلغوها، ومنهم سجين قلبه وحبه وفقده، وآخرون يجهلون أي الأسوار تحديدًا تحيط بهم، لكنهم مقيدون بظلالها. يبدو في النهاية أن السجن واحد وإن اختلفت أسواره، ولا يتحرر إلا محاول آمن وارتجلَ الشجاعة.
أحمل في طبعي الكثير من اللِّين، ويَرتديني قناعٌ قاسٍ من الكبرياء.
من تمام كمال المرء، والإيمان الداعم لاتِّزانه النفسي؛ أن يَتقبّل ألا يُتقبّل ولا يسعى بين هذا وذاك لنيل القُبول، وأن يرضى بسخط الناس كما يرضى محبتهم، وأن يبصر ما في نفسه من مواطن القوة والضعف ما يجنِّبه أن يُؤذِي، وأن يُؤذَىٰ، وما يعينه على تحمل الأذىٰ.
الإنسان محادثة، ربما لهذا اشتق لفظه من ”الأُنس“، في خلق تواصلٍ حميمٍ مع من يحب ويرافق. فمرآة الذات ليست في الوَحدة التي تُفرض عليه أو يضطر إليها لتزكية نفسه وتهذيبها فقط، ولكن أيضًا في صديق أو زوج/ة يسامره ويستقبل نصحه ودعمه ورأيه ومؤازرته في السراء والضراء، رفيق يشاركه صفو الحياة وكدرها، يؤنس وحشته ويصاحب طريقه ويقيل عثرته، وهذا جوهر الإنسانية.
عبد الرحمن القلاوي
Photo
‏يا رب مَننت على عبدك الفقير بعُمرةٍ في رمضان بغير حولٍ منه، عساها تعدِلُ حَجَّةً لم يستطع سبيلًا إليها بَعد. فيا رب هبه من لدنك العزيمة ليلبِّي، والاستطاعة ليحج، والإخلاص ليُقبل منه.

في عفوٍ وعافيةٍ، عاجلًا غير آجلًا، مع من يحب.
حين أفتح عيني صباحًا أجلس على سريري 5 دقائق، أريح قدمي على الأرض، ويمر خلالها شريط حياتي كاملًا أمام عيني؛ منتهى آمالي وأحلامي ومخاوفي وذنوبي وآثامي وخيباتي الثقال، ومستقبلي الغامض، وتجاربي المجهولة، وأفكر طويلًا في الحب والحرب والموت ويوم القيامة والخلود السرمدي، ثم أستسلم لحاضري وأقوم حتى لا أغرق.
2025/05/31 20:38:55
Back to Top
HTML Embed Code: