tgoop.com/alfraid1/17591
Last Update:
قال المعملي رحمه الله كما في آثاره (٦/ ١٤-٢١):
في "الصحيحين" من حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرا أو ينمي خيرا".
قال الحافظ في "الفتح": "قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر، ولا يكون ذلك كذبا".
وزاد مسلم في رواية: "قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب، إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس،
وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها".
ثم ذكر أن بعض الرواة أدرج هذا الكلام، فجعله من قول أم كلثوم بلفظ: "وقالت: ولم أسمعه يرخص ... ".
وبين الحافظ في "الفتح" أن الذي أدرجه في الحديث وهم، والصواب أنه من قول الزهري، ونقل الحكم بالإدراج عن النسائي وموسى بن هارون وغيرهما، ثم قال: "قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين ... ".
ثم قال الحافظ: " ... واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل - وهو مختف عنده - فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك، ولا يأثم، والله أعلم".
أقول: مهما خلا الكذب عن المفسدة، فلا يكاد يخلو عن إفقاد صاحبه ثقة الناس بكلامه، وحرمانهم الاستفادة من خبره بقية عمره، فهو يستفيد من أخبارهم، ولا يثقون به فيستفيدوا من خبره.
ولعل سقوط ثقتهم بخبره يوقعهم في مضار، ويصرف عنهم مصالح مما يخبرهم به صادقا فلا يصدقونه.
ولو أبيح الكذب في الإصلاح، فكذب المصلح لأوشك أن يعرف كذبه فتسقط الثقة به.
وافرض أنه علم عذره، فإنها على ذلك تسقط الثقة به في الإصلاح، فإذا قال خيرا أو نمى خيرا بعد ذلك لم يصدق، وإن كان صادقا؛ لأنه قد عرف استحلاله الكذب في ذلك، ومع هذا فإنها تتزلزل الثقة بخبره في غير الإصلاح أيضا، إذ يقول الناس: لعله يرى في خبره هذا إصلاحا، فيستحل الكذب فيه!
وقريب من هذا: حال الكذب في الحرب، وكذب كل من الزوجين على الآخر.
وأنا نفسي كانت إذا سألتني زوجتي ما لا أريد أقول لها: أفعل إن شاء الله! قاصدا لتعليق، فلما قلت ذلك ثلاث مرات أو أزيد فطنت للقضية! فصارت لا تثق بوعدي إذا قلت: سأفعل إن شاء الله، فوقعت في مشكلة؛ لأنني أحتاج إلى أن أقول: "إن شاء الله" في كل وعد وإن أردت الوفاء به؛ للأمر الشرعي بذلك.
وقولك لظالم: "دعوت لك أمس" فيه مفاسد؛ لأنه إن كان يحسن الظن بك، وحمل قولك على ظاهره جرأه ذلك على الظلم، قائلا: إن دعاء هذا الصالح لي يدل على أنه يرائي من أهل الخير، وأن ما يخطر لي من التأويل في هذه الأمور التي يزعم الناس أنها ظلم هو تأويل صحيح! وما من ظالم إلا والشيطان يوسوس له بتأويل ما يبرر به صنيعه وإن استبعد دعاءك له اعتقد كذبك ومداهنتك له، وطمع منك في غيرها، وزالت من قلبه هيبته لك في الله، وأوشك أن تنالك منه مضرة؛ لسقوطك من عينه، ويجترئ مع ذلك على المظالم، قائلا: الناس سواسية، هذا الذي يقال صالح يكذب ويداهن الظلمة! فلو استطاع الظلم لظلم!
وإذا تنبه لاحتمال كلامك التورية لم تأمن أن يحمل قولك: "دعوت لك" على "دعوت عليك"، يقول: كأنه أراد "دعوت لأجلك" أي: دعوت الله تعالى أن يريح الناس من شرك، أو نحو ذلك.
والحاصل أن الكذب لا يخلو عن المفاسد، ولكن إذا تعين طريقا لدفع مفسدة عظيمة - كالقتل ظلما - جاز، على قاعدة تعارض المفسدتين.
والمنقول من هذا إنما هو في التورية، كقول إبراهيم لزوجته: هي أختي؛ لعلمه أنه لو قال: زوجتي لقتلوه.
وقوله: {إني سقيم} [ الصافات: 89]
؛ لأنه أراد أن يتوصل إلى تكسير أصنامهم، وفي ذلك دفع مفسدة عظيمة.
وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} [ الأنبياء: 63]؛ لأنه أراد أن يتوصل بذلك إلى إنقاذهم من الشرك، والشرك أعظم المفاسد، مع أنهم إذا خلصوا من الشرك خلص هو من القتل، وظني أن هذه كلها كانت قبل أن ينبأ إبراهيم عليه السلام، كما قررته في "رسالة العبادة".
وكل من هذه الثلاث فيها تورية قريبة، والحال التي كان عليها شبه قرينة تشكك في حمل كلامه على ظاهره، فيصير بها الكلام كالمجمل.
وإيضاح هذا: أنه قد علم أنه لو تبين للظلمة أنها امرأته لقتلوه، وإذا عرف ذلك فيبعد أن يعترف بأنها امرأته. ومثل هذه الحال توقع عادة في الكذب المحض؛ ولهذا لا يشق الناس بخبر من وقع في مثلها، فإذا عرفوا منه التحفظ من الكذب قالوا: لعله ورى، فهذا شبه قرينة.
BY فرائد الفوائد
Share with your friend now:
tgoop.com/alfraid1/17591