tgoop.com/Eclil7/8004
Last Update:
الصورة النمطية التي ما زالت تقدمها (الميديا) للشخصيات العظيمة في تاريخنا تختصر العظمة في خوارق جسدية، ومن نتاج ما قدمته الأفلام والمسلسلات في أذهان أجيال أن ارتسم صورة ذهنية لآحاد عظماء الأمة، فلا تكاد يُذكر بطل أو عالم إلا واستدعى الذهن صورة شخصها ممثل مفتول العضلات جميل الصورة، حتى وإن تدخلت في صناعة هذه الصورة التقنيات الحديثة في اللعب بالأشكال والأجساد، والغريب أن المشخصين أنفسهم ليسوا بهذه القوة من الشكل أو الحركة التي عرضتها علينا (التمثيليات).
ومع افتراض حسن نية العاملين في هذا المجال، فإنهم يفتقدون النظر الثاقب في الدرس التاريخي والبُعد التربوي ويرون نجاحهم في إبراز الصورة المثيرة للشغف، أكثر من عكس واقع الأمر!
فإذا كان كسب القدوة الصالحة هو الهدف من حرص الآباء أن يشاهد أبناؤهم تمثيليات لقصص الأبطال والمصلحين، فإن تجسيد العظماء كعمالقة وعلى خلاف حقيقة حالتهم البنيوية؛ هو مغالطة تصيب الأجيال القادمة باليأس من أن يخرج منهم واحد كهؤلاء العظماء، بسبب بسيط أنه رأى هؤلاء العظماء في الأفلام والمسلسلات عمالقة في أجسادهم وأقوياء في أبدانهم، ويمثل الفرق الهائل بينهم وبين الشخصية المغلوطة في البنية الجسدية حاجزاً بينهم وبين الإنجازات التي تجعلهم في مصاف العظام!
وهذه الحالة لا تختلف كثيراً عما يفعله بعض الوالدين، فإذا ما رأى أحدهما طفلاً صغيراً ختم القرآن أو حصل على جوائز دولية، فيبادر بعرض مصوراتهم وأخبارهم لابنه، في حالة مقارنة بينهما ظناً منه أنه يُحفز ولده ويشجعه على الحفظ والتفوق، وبفعله هذا -ومن حيث لا يدري- يصاب الصغير بخيبة أمل وشعور بالفشل، لأن هناك جهد غير مرئي قبل مشهد الإنجاز الكبير والفوز بجائزة دولية؛ لعل أقله: هو جهد الصغير الفائز، وأكثره: مجهود الوالدين ومثابرتهم في متابعة ابنهم في برنامج متكامل مع شيخ متقن!
مثل هذه المفارقات تذكرني بالأستاذ الشيخ البصير «أحمد محرم» -قدس الله سره وبرَّد مضجعه- أحد أساطين علم الحديث الشريف في جامعة الأزهر، وأكبر مشايخي في الحديث والتهذيب -رَحِمَهُ اللَّهُ- كان ورده في صلاة الفرائض ثلاثة أجزاء يقرأ بها يومياً، وذكر لنا أنه لم ينجح في مسابقة قط! وهو متقن الوحيين حفظاً وتجويداً!
وإن مشهداً حقيقياً لـ«أبي إبراهيم السنوار» وهو صاحب جسد نحيل يتوكأ على خشبة ويلتحف بغطاء بالٍ ويتمثل قول شوقي:
وللحرية الحمراء بابٌ ** بكل يد مضرجة يُدَقُّ
إنه مشهد يصحح لنا مفهوم الصورة الجسدية المبالغ فيها التي تُعرض للعظماء على الشاشات، فقد كان هناك العديد من العلماء والقادة الذين عانوا من أمراض أو إعاقات لكنهم قادوا جيوشهم لانتصارات كبيرة، لأن العظمة لا ترتبط بالجسد العملاق، بل بالإرادة والعقل والعمل الدؤوب، وكثير منهم لم يكون صاحب بنية جسدية خارقة، بل منهم من عانى من أمراض وإعاقات لم تمنعهم من تحقيق إنجازات خرافية في مجالاتهم، ولا نمل من التكرار أن العظمة ترتبط بالإرادة والذكاء، وهما أقوى من الظروف الجسدية، وهذا ما جعلهم يحققون نجاحات كبيرة رغم التحديات التي واجهوها.
إن في تاريخ البشرية نماذج حية لإمكانية تحويل العقبات إلى فرص، وللصمود في الأوقات العصيبة، وقد كان لهم رؤى إنسانية لا زالت مصدر إلهام للأجيال القادمة، ورغم معاناتهم لم تقتصر إنجازاتهم على ميادين الحرب والسياسة أو العلم فحسب! بل شكلوا وعيًا ضد العجز والاستكانة بقي أثره وامتد عطاؤه!
إنهم عرفوا كيفية تحويل نقاط ضعفهم إلى قوة، سواء كان ذلك عن طريق الذكاء الاستراتيجي أو القيادة والقدوة الحكيمة!
إن الطبيعة الجسدية العملاقة لم تتوفر حتى للنبي ﷺ وفضلاً عما ورد في شمائله الشريفة ﷺ فثمة أشياء تمنع قصر عظمة الرسول ﷺ على البنية العملاقة منها:
جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيه ﷺ القدوة للبشرية ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21] والتكاليف التعبدية القائمة على القدرة البشرية لا يعقل أن يكون القدوة فيها عملاقاً أو خارقاً في إمكانياته الجسدية؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ﴾ [الأنعام: 9].
وصرح القرآن العظيم بالطبيعة البشرية الكاملة للنبي ﷺ وجعل الفرق الوحيد بين نفسه الشريفة وبين سائر البشر هو الوحي المُلْهِم للإرادة والإصرار على تحصيل الكمال، فقال جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110، فصلت: 6].
BY أَكاليلُ الرَّبِيع 💐
Share with your friend now:
tgoop.com/Eclil7/8004