MOHAMMEDD6 Telegram 947
الخلاص الذي نؤمن به هو خلاصٌ سُنني (تحكمه السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل)، لا خلاصٌ فجائي. ومن آثار هذا الإيمان: الصبر الطويل، وعدم استعجال النهايات، مع إحسان الظن بالله، والتفاؤل والأمل، والالتفات إلى العمل الواجب.
 
عند ورود الابتلاءات، قد تأسر اللحظةُ بعضَ الناس، فيقرؤون الأحداث من داخل حدود الظرف الزمني الضيق الذي يعيشونه، وهؤلاء سيصيبهم -ولا بد- اليأس والإحباط، ما قد يفضي ببعضهم إلى القعود عن العمل، في حين ينحدر آخرون إلى التنظير لهذا القعود، والدعوة إلى الاستسلام والهزيمة.
 
في المقابل، فإن من يعتصم بالوعي بالسنن الإلهية، يبصر ما وقع بصفوة الخلق من الأنبياء وأتباعهم من الابتلاءات العظيمة، ثم يرى نصر الله لهم بعد طول المحنة، وإهلاك أعدائهم بعد الإمهال والاستدراج؛ وبالتالي يقرأ الأحداث بمآلاتها لا بظروفها الحالية.
 

إن السنن الإلهية توجِّه قراءة الأحداث المفردة في حركة الصراع بين الحق والباطل، وتضعها في سياقها الكلي الشامل، كما أن مقاصد الشريعة توجّه فهم النصوص الجزئية من الكتاب والسنة. ولهذا كان من منهج القرآن -كما يقول سيد قطب-: "أن "يربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها. وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم -قبل الإسلام- لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام -وكتابه القرآن- الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا" (في ظلال القرآن).
 
وهذا المعنى -أعني: قراءة الأحداث في ضوء السنن الإلهية- كثير الورود في نصوص الكتاب والسنة. ففي سورة هود، بعد أن عرضت الآيات قصة نوح -عليه السلام- مفصلة، قال الله تعالى لنبيه: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، فأمره بالصبر؛ ليقيس "حَالَهِ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى حَالِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ، فَكَمَا صَبَرَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ" (التحرير والتنوير).
 
وفي سياق تعزية المؤمنين في مصابهم يوم أُحد، نزل قوله تعالى: {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، لتوجيه أبصارهم إلى سنن الله في الأمم السابقة. والسنن التي تشير إليها هذه الآية والسياق الذي وردت فيه هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
 
"فما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا؛ وذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة، وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى" (في ظلال القرآن). وعليه، فليس انتصار المشركين في هذه المعركة هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.
 
وحين شكا بعض الصحابة حالهم إلى النبي ﷺ، قائلين: "أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟"، لم يُجِبْهم باستجابة فورية، بل وجَّه أنظارهم إلى قراءة الأحداث في ضوء السنن لا بمعزل عنها، فما هم فيه من البلاء الشديد ليس أمرًا خاصًّا بهم، ولا طارئًا على أهل الإيمان، فقد لاقى إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان مثله بل أشد، ومع هذا، لم يصرفهم ذلك عن دينهم.
 
وقد كانت رسالة النبي لأصحابه من هذا الحديث: أن يثبتوا على الحق، ويتحملوا المشاق في سبيله، وألا يستعجلوا النتائج، حتى ينصرهم الله، كما نصر إخوانهم السابقين.
 
الشاهد من هذه الأمثلة أن الوعي بالسنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل يحرر المؤمن من أسر اللحظة وينقله إلى فسحة التاريخ والمآل. فمن يقرأ الأحداث المفردة لا يرى إلا جزءًا من الحاضر، أما من يبصرها من خلال السنن، فإنه يبصر الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد.
 
في سياق مقاومتنا المستمرة لهذا الكيان البربري، من تأسره مشاهد حرب الإبادة في غزة، فلن يصيبه إلا اليأس والإحباط. أما من يقرأ الأحداث في ضوء السنن ومآلاتها، فإنه لا يزداد إلا إيمانًا بضرورة العمل والمقاومة، ويقينًا بأن العاقبة للمتقين، وأن "الشدة -كما يقول ابن القيم- بتراء لا دوام لها وإن طالت" (طريق الهجرتين).
38👍9



tgoop.com/mohammedd6/947
Create:
Last Update:

الخلاص الذي نؤمن به هو خلاصٌ سُنني (تحكمه السنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل)، لا خلاصٌ فجائي. ومن آثار هذا الإيمان: الصبر الطويل، وعدم استعجال النهايات، مع إحسان الظن بالله، والتفاؤل والأمل، والالتفات إلى العمل الواجب.
 
عند ورود الابتلاءات، قد تأسر اللحظةُ بعضَ الناس، فيقرؤون الأحداث من داخل حدود الظرف الزمني الضيق الذي يعيشونه، وهؤلاء سيصيبهم -ولا بد- اليأس والإحباط، ما قد يفضي ببعضهم إلى القعود عن العمل، في حين ينحدر آخرون إلى التنظير لهذا القعود، والدعوة إلى الاستسلام والهزيمة.
 
في المقابل، فإن من يعتصم بالوعي بالسنن الإلهية، يبصر ما وقع بصفوة الخلق من الأنبياء وأتباعهم من الابتلاءات العظيمة، ثم يرى نصر الله لهم بعد طول المحنة، وإهلاك أعدائهم بعد الإمهال والاستدراج؛ وبالتالي يقرأ الأحداث بمآلاتها لا بظروفها الحالية.
 

إن السنن الإلهية توجِّه قراءة الأحداث المفردة في حركة الصراع بين الحق والباطل، وتضعها في سياقها الكلي الشامل، كما أن مقاصد الشريعة توجّه فهم النصوص الجزئية من الكتاب والسنة. ولهذا كان من منهج القرآن -كما يقول سيد قطب-: "أن "يربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها. وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم -قبل الإسلام- لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام -وكتابه القرآن- الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا" (في ظلال القرآن).
 
وهذا المعنى -أعني: قراءة الأحداث في ضوء السنن الإلهية- كثير الورود في نصوص الكتاب والسنة. ففي سورة هود، بعد أن عرضت الآيات قصة نوح -عليه السلام- مفصلة، قال الله تعالى لنبيه: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، فأمره بالصبر؛ ليقيس "حَالَهِ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى حَالِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ قَوْمِهِ، فَكَمَا صَبَرَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ كَذَلِكَ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ" (التحرير والتنوير).
 
وفي سياق تعزية المؤمنين في مصابهم يوم أُحد، نزل قوله تعالى: {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]، لتوجيه أبصارهم إلى سنن الله في الأمم السابقة. والسنن التي تشير إليها هذه الآية والسياق الذي وردت فيه هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
 
"فما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا؛ وذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة، وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى" (في ظلال القرآن). وعليه، فليس انتصار المشركين في هذه المعركة هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.
 
وحين شكا بعض الصحابة حالهم إلى النبي ﷺ، قائلين: "أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟"، لم يُجِبْهم باستجابة فورية، بل وجَّه أنظارهم إلى قراءة الأحداث في ضوء السنن لا بمعزل عنها، فما هم فيه من البلاء الشديد ليس أمرًا خاصًّا بهم، ولا طارئًا على أهل الإيمان، فقد لاقى إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان مثله بل أشد، ومع هذا، لم يصرفهم ذلك عن دينهم.
 
وقد كانت رسالة النبي لأصحابه من هذا الحديث: أن يثبتوا على الحق، ويتحملوا المشاق في سبيله، وألا يستعجلوا النتائج، حتى ينصرهم الله، كما نصر إخوانهم السابقين.
 
الشاهد من هذه الأمثلة أن الوعي بالسنن الإلهية في الصراع بين الحق والباطل يحرر المؤمن من أسر اللحظة وينقله إلى فسحة التاريخ والمآل. فمن يقرأ الأحداث المفردة لا يرى إلا جزءًا من الحاضر، أما من يبصرها من خلال السنن، فإنه يبصر الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد.
 
في سياق مقاومتنا المستمرة لهذا الكيان البربري، من تأسره مشاهد حرب الإبادة في غزة، فلن يصيبه إلا اليأس والإحباط. أما من يقرأ الأحداث في ضوء السنن ومآلاتها، فإنه لا يزداد إلا إيمانًا بضرورة العمل والمقاومة، ويقينًا بأن العاقبة للمتقين، وأن "الشدة -كما يقول ابن القيم- بتراء لا دوام لها وإن طالت" (طريق الهجرتين).

BY د. محمد العامودي


Share with your friend now:
tgoop.com/mohammedd6/947

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

Add up to 50 administrators You can invite up to 200 people from your contacts to join your channel as the next step. Select the users you want to add and click “Invite.” You can skip this step altogether. Telegram iOS app: In the “Chats” tab, click the new message icon in the right upper corner. Select “New Channel.” Some Telegram Channels content management tips Channel login must contain 5-32 characters
from us


Telegram د. محمد العامودي
FROM American