CIIUV Telegram 1578
يُمعن البدو في إرهاف حواسهم لاستخدامها في مقاومة جفاء صحرائهم وجفاف مواردها، حتى في تذوق الجمال واختبار الملذات. فعندما افتقرت حياتهم للملذات الذوقية - تلك التي تعرفها البشرية عن طريق أفواهها - عادوا إلى لغتهم، مددوها، شاسعوا مساحتها، وسعوا دلالاتها، ليتجاوز مصطلح التذوق معرفة اللسان إلى معرفة أشمل تُستسقى من جميع حواسهم الخمس، يملأونها نظرًا وشمًا وتذوقًا وملامسةً واستماعًا. ومن هنا وُلِد المجاز.

وعند تمام تشكيل لغتهم وعلوّ مخيلتهم السمعية واستكانتهم للذة التأمل ببراعة العارف وتلذذ الشره المُغرق في المادية، خاطبهم ربهم بما يعرفون، باللغة ذاتها التي باعدوا بين ألفاظها ودلالاتها، والتي ازدادت رَهَافةً مع كثرة طرقهم إياها، حتى صارت نسيمًا هفهافًا يُعزيهم كلما زأرت عواصف أرضهم ولسعت أطرافهم رمالها المتطايرة. خاطبهم بما يعرفون حقًا، بما يجيدون ببراعة، بمزيج اللغة والتأمل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فصاروا يرددون: اللهم ارزقنا (لذّة النظر إلى وجهك).

هذه بالذات (لذّة النظر) مركزية في معرفتهم وأدوات تلقيهم للذة، فمن النظر في النجوم ومراقبة حركاتها إلى النظر في معالم الأرض والاستدلال بهما، حتى النظر في وجوه محبوباتهم بإجلالٍ مُفرط وتلذذ فاحش. يقول العباس بن الأحنف في هذا المعنى:

وأُقسِمُ لو أَبصَرتَنا حينَ نلتقي
ونحنُ سُكوتٌ، خِلتَنا نتكلَّمُ

وعلي بن الجهم قد أتى بمقلوب المعنى ويقول:

العَينُ بَعدَكَ لَم تَنظُر إِلى حَسَنِ
وَالنَفسُ بَعدَكَ لَم تَسكُن إِلى سَكَنِ
كَأَنَّ نَفسي إِذا ما غِبتَ غائِبَةٌ
حَتّى إِذا عُدتَ لي عادَت إِلى بَدَني

ولا زالت مركزية النظر قائمة حتى يومنا هذا في الشعر الشعبي بنفس الأهمية عند العرب الأوائل. فهذا بخيت العطاوي في هذا المعنى تحديدًا:

طرد النظر ما فيه عيبٍ عليّه
أبا تحلاّ بنت ماضين الأفعال
ياونتي يا سارة الوازعية
ونة معيد ساقه الفجر عمال
تقفي وتقبل فوق جال الركية
ومن الصلف خالي ظهرها من الحال
لاشدوا العربان ودوجر حنية
يبري لها قاعد بتسعين خيال

ولا عجب، فلم تتبدل الجزيرة العربية ثوبًا غير ثوبها، وهي التي صُنعت فيها اللغة وحُفظت لاحقًا، ووُلد لها الشعران فصيحه وعاميّه. ولم يزل أهلها يطرقون المعاني التي تكرسها بيئتهم وتخلقها ظروف معيشتهم باختلاف الأساليب والتراكيب.



tgoop.com/ciiuv/1578
Create:
Last Update:

يُمعن البدو في إرهاف حواسهم لاستخدامها في مقاومة جفاء صحرائهم وجفاف مواردها، حتى في تذوق الجمال واختبار الملذات. فعندما افتقرت حياتهم للملذات الذوقية - تلك التي تعرفها البشرية عن طريق أفواهها - عادوا إلى لغتهم، مددوها، شاسعوا مساحتها، وسعوا دلالاتها، ليتجاوز مصطلح التذوق معرفة اللسان إلى معرفة أشمل تُستسقى من جميع حواسهم الخمس، يملأونها نظرًا وشمًا وتذوقًا وملامسةً واستماعًا. ومن هنا وُلِد المجاز.

وعند تمام تشكيل لغتهم وعلوّ مخيلتهم السمعية واستكانتهم للذة التأمل ببراعة العارف وتلذذ الشره المُغرق في المادية، خاطبهم ربهم بما يعرفون، باللغة ذاتها التي باعدوا بين ألفاظها ودلالاتها، والتي ازدادت رَهَافةً مع كثرة طرقهم إياها، حتى صارت نسيمًا هفهافًا يُعزيهم كلما زأرت عواصف أرضهم ولسعت أطرافهم رمالها المتطايرة. خاطبهم بما يعرفون حقًا، بما يجيدون ببراعة، بمزيج اللغة والتأمل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فصاروا يرددون: اللهم ارزقنا (لذّة النظر إلى وجهك).

هذه بالذات (لذّة النظر) مركزية في معرفتهم وأدوات تلقيهم للذة، فمن النظر في النجوم ومراقبة حركاتها إلى النظر في معالم الأرض والاستدلال بهما، حتى النظر في وجوه محبوباتهم بإجلالٍ مُفرط وتلذذ فاحش. يقول العباس بن الأحنف في هذا المعنى:

وأُقسِمُ لو أَبصَرتَنا حينَ نلتقي
ونحنُ سُكوتٌ، خِلتَنا نتكلَّمُ

وعلي بن الجهم قد أتى بمقلوب المعنى ويقول:

العَينُ بَعدَكَ لَم تَنظُر إِلى حَسَنِ
وَالنَفسُ بَعدَكَ لَم تَسكُن إِلى سَكَنِ
كَأَنَّ نَفسي إِذا ما غِبتَ غائِبَةٌ
حَتّى إِذا عُدتَ لي عادَت إِلى بَدَني

ولا زالت مركزية النظر قائمة حتى يومنا هذا في الشعر الشعبي بنفس الأهمية عند العرب الأوائل. فهذا بخيت العطاوي في هذا المعنى تحديدًا:

طرد النظر ما فيه عيبٍ عليّه
أبا تحلاّ بنت ماضين الأفعال
ياونتي يا سارة الوازعية
ونة معيد ساقه الفجر عمال
تقفي وتقبل فوق جال الركية
ومن الصلف خالي ظهرها من الحال
لاشدوا العربان ودوجر حنية
يبري لها قاعد بتسعين خيال

ولا عجب، فلم تتبدل الجزيرة العربية ثوبًا غير ثوبها، وهي التي صُنعت فيها اللغة وحُفظت لاحقًا، ووُلد لها الشعران فصيحه وعاميّه. ولم يزل أهلها يطرقون المعاني التي تكرسها بيئتهم وتخلقها ظروف معيشتهم باختلاف الأساليب والتراكيب.

BY صَبابَة.


Share with your friend now:
tgoop.com/ciiuv/1578

View MORE
Open in Telegram


Telegram News

Date: |

With the “Bear Market Screaming Therapy Group,” we’ve now transcended language. The main design elements of your Telegram channel include a name, bio (brief description), and avatar. Your bio should be: You can invite up to 200 people from your contacts to join your channel as the next step. Select the users you want to add and click “Invite.” You can skip this step altogether. During the meeting with TSE Minister Edson Fachin, Perekopsky also mentioned the TSE channel on the platform as one of the firm's key success stories. Launched as part of the company's commitments to tackle the spread of fake news in Brazil, the verified channel has attracted more than 184,000 members in less than a month. Although some crypto traders have moved toward screaming as a coping mechanism, several mental health experts call this therapy a pseudoscience. The crypto community finds its way to engage in one or the other way and share its feelings with other fellow members.
from us


Telegram صَبابَة.
FROM American