Telegram Web
رجل وامرأة
كان ذلك في يوم من أيام سنة ٦٠٧ هـ، وكانت دمشق تصارع دهرها الغاشم الحَرون الذي رمى بلاد الشام بقاصمة الأصلاب، الصليبيين، فنزلوا على مدنه نزول البلاء، وفشت أجنادهم في نابلس وعكا وبلاد أُخَر فُشُوّ الطاعون. وكان صبرها يزيد كلما زاد الكرب، وحزمها ينمو كلما نمت المصيبة، شأنَ دمشق في كل عصر.
وكان طوفان المغيرين يمتد ويتسع؛ يحمل الموت والدمار، يأتي على البلاد والعباد، يجتث الحضارة من أصولها ... وأهل الشام ينهضون له فلا يملكون له دفعاً، حتى كادت الديار تخلو من شبابها ولا يبقى فيها إلا شيخ أو امرأة أو صبي، أو قَعَدي نسي واجب الجهاد!
وقد ذهب - فيمن ذهب - إخوة «ميسون» الأربعة، وبقيت من بعدهم وحيدة في دارها لا يؤنسها إلا شبابها وجمالها وذكرى إخوتها.
* * *أصبحت ميسون مهمومة، قد تقاسم فكرَها العزيزان: وطنُها وإخوتُها، فما تدري ما جرى لهم وماذا يجري عليه، ولقف سمعها طرفاً من أحاديث المارة، فعلمت أنه قد اشتد الخطر ودنا الهلاك، وأن هؤلاء «الواغلين» لا يفتؤون يركبون جناح الليل الأسود إلى شاطئ فلسطين، تحملهم المواخر الهاربة من عين الرقيب، المتسللة من وراء الحرس، فكلما دجى الظلام نزلوا إلى الشط أفواجاً، فكانوا للغاصبين عوناً وعلى أهل البلاد حرباً. وجعلت تفكر في هذه العصبة المجاهدة الكريمة، ماذا تستطيع أن تصنع لها؟ وكيف توقد النار في أعصاب هؤلاء الذين لا يزالون يروحون ويغدون على متاجرهم وأعمالهم، ويأخذون حظوظهم من مفاتن الطبيعة وجمال الكون، وتنسيهم ملذات أجسامهم ومرابح تجارتهم هذا الخطر الذي عم البلاد، والذي طال الزمان به، ونشؤوا عليه فألفوه ونسوا أيام الحرية والمجد وأن هذه البلاد بلادهم، وأنهم سلائل الأبطال الفاتحين، وحسبوا حكم هؤلاء «الواغلين» ضربة لازب، وأن قضاء الله قد تم فيهم فلا ينفع معه سعي، وأن أيام السعادة قد انتهت فلا تؤمل لها رجعة.
كيف لها - وهي فتاة - بإيقاظ هذه النفوس التي امتد بها الهجوع حتى كاد يكون موتاً؟ كيف تُفهم هذه الشخوص التي تجيء وتذهب (كشخوص من ورق في ألعوبة «الكراكوز») أن الحياة ليست بطناً يُملأ، ولا شهوة تُقضى، ولا مالاً يُنال، ولكن الحياة المجد والتقى وجلائل الأعمال. وأن يعرفوا للوطن حقه، وأن يعلموا، ويعلم كل عربي وكل مسلم، أنه ما دام في فلسطين«واغل ...» واحد من هؤلاء، فحرام أن ينعم زوج بأهله، أو غني بماله، أو يغلق جفن على لذيذ المنام؟
وإنها لفي تفكيرها، وإذا بالباب يخفق، وإذا هو نعي إخوتها الأربعة!
* * *
صُعقت ميسون لهذا النبأ، وعجز جسمها اللدن وقلبه الرقيق عن حمله، فتضعضعت وانهارت، ولكن الإيمان والشباب تنبها في نفسها، ونهضا من تحت أنقاض الصبر وخلال غبار المصيبة يوقظان اللبؤة للانتقام. لقد كان وتراً واحداً فصار وترين، وكانت تطلب ثأر وطنها، فلتطلب ثأر وطنها وإخوتها. ووضعا البارود في أعصابها كما يوضع في المدافع، ثم أرسلاها في هذا الشعب الهاجع تقرع أذنه بالرعود، فيفيق أو ينام إلى الأبد.
وأحست ميسون أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزاً، وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل، والمدد الذي لا ينقطع، والأيْد الذي يفل الجيوش ويدك الحصون. وكذلك الإيمان إن نزل بقلب امرأة جعل منها بطلاً لا يُغلب، وما أعجب ما يصنع الإيمان!
* * *
وهمت ميسون أن ترتدي ثيابها ثم تطلب ميدان العمل، وتلفتت حولها، فلم تجد لها في الأرض قريباً ولا ذا رحم،فقطعت أسبابها من الأرض، ثم وصلتها بالسماء فشعرت كأنها مؤيدة بقوة إلهية اصطفتها من دون الناس لتعلّم - وهي الفتاة الغريضة الناعمة - هؤلاء الرجال الرجولةَ كيف تكون!
ولم تعلم من أين تبدأ العمل، وجعلت تفكر وهي تمرر يدها على شعرها المنسدل حولها، المتموج كالحرير، يفتن العباد لو أرادت به الفتنة ويأسر قلوب الفرسان، فسطعت لها الفكرة كما يسطع البرق خلال الظلام: إن هذا هو سلاحها، لتشدّنّ الرجال بهذا الشعر الناعم، ثم لتقودنّهم من أعناقهم إلى المعمعة الحمراء. لتجعلن من ضعفه قوة تأكل القوي.
وذهبت فنادت جارات لها كنّ يقتدين بها ويسمعن منها، فذكرت لهن مصابها في إخوتها، فحسبنها قد دعتهن ليواسينها ويخففن عنها، ولكنها مضت في حديثها مُصَعِّدة حتى سَمَتْ إلى فلك التضحية ونسيان النفس، ورفعتهن معها. حتى إذا استوثقت منهن قالت: إننا لم نخلق رجالاً نحمل السيوف ونقود الخميس، ولكنّا إذا جَبُنَ الرجال لم نعجز عن عمل، وهذا شعري (أثمن ما أملك) أنزل عنه، أجعله قيداً لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك هؤلاء الأموات.
وأخذت المقص فجزت شعرها وصنع الفتيات صنعها، ثم جلسن يضفرنه لجماً وقيوداً لخيل المعركة العابسة، لا يضفرنه ليوم الزفاف ولا لليلة العرس.
* * *أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب الجامع الأموي، سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة، وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفد منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله وينظر بعضهم في وجوه البعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم.
خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول فيقذف به على لسانه، ولم يستطع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح، قد ذابت كلماتها في معانيها ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كلَّ عصر مرةً لسانُ محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامةً من الكرامات وواحدةً من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة: لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر العيون ... وإنما حفظوا منها جملاً نقلوها إلى لسان الأرض فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. وكان مما حفظوا:
"يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادُهم بالحق أقطارَ الأرض، وحُكموا هم بالباطل في ديارهم وأوطانهم! يا من باع أجدادُهم نفوسَهم منالله بأن لهم الجنة، وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة ولذائذ حياة ذليلة!
يا أيها الناس:
ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؟
يا ويحكم! أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم مرأى عدو الله وعدوكم، يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويتعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا؟ أما يهز قلوبكم وينمي حماستكم أن إخواناً لكم قد أحاط بهم العدو وسامهم ألوان الخسف؟! أما في البلد عربي؟ أما في البلد مسلم؟ أما في البلد إنسان؟ العربي ينصر العربي، والمسلم يعين المسلم، والإنسان يرحم الإنسان؛ فمن لم يهبّ لنصرة فلسطين لا يكون عربياً ولا مسلماً ولا إنساناً!
أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟
يا أيها الناس! إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب فأفسحوا الطريق للنساء يُدِرنَ رحاها، واذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل! يا نساء بعمائم ولحى!
أوْ لا ... فإلى الخيول، وهاكم لجمها وقيودها.يا ناس! أتدرون مِمّ صُنعت هذه اللجم وهذه القيود؟
لقد صنعها النساء من شعورهن، لأنهن لا يملكن شيئاً غيرها يساعدن به فلسطين.
هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظاً، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة، الحرب في سبيل الله وفي سبيل الأرض والعرض، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها بها فخذوها فاجعلوها ذوائب لكم وضفائر ... إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور!
وألقاها من فوق المنبر على رؤوس الناس وصرخ: تصدعي يا قبة النسر، وميدي يا عَمَد المسجد، وانقضّي يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم!
فصاح الناس صيحة ما سُمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت (١).
* * *
بلغت الحياة هذه القلوب فعاشت بحمية الإيمان وحماسة الشرف، وعاش فيها إرث الجدود، فهبت دمشق يستبق رجالها في طريق الجهاد، وتوالت الأمداد على الملك المعظم في نابلس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) هذه الخطبة من إنشائي أنا لأن التاريخ لم ينقل إلينا نص تلك الخطبة، وقد خُدع بها ناس، حتى إن خطيب المسجد الحرام رواها في خطبة الجمعة على أنها هي خطبة سبط ابن الجوزي.
الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(ونابلس دائماً مطلع شمس النصر، ونابلس دمشق فلسطين)، وكانت هجمة الأسود على الأعداء «الواغلين» فطردوهم حتى التجؤوا إلى عكا، فحاصروهم فيها حتى أشرفوا على الهلاك، فاستسلموا.
وكذلك جاء النصر على يدَي رجل وامرأة، أما الرجل فقد أكرمه الله فجعله أحد العظماء الخالدين، وأما المرأة فقد كافأها فرد عليها إخوتها الأربعة سالمين مظفرين لم يصبهم سوء، وكان خبر موتهم مكذوباً.
وعلمت الدنيا أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لا يذلون ولا يُستعبدون ما بقي فيهم رجل واحد أو امرأة مفردة طوت صدرها على إيمان صحيح، وأنهم قد ينامون ولكنهم لا يموتون، وأن «الواغلين ...» في فلسطين وغير فلسطين قد يقيمون حيناً، ولكنهم لا يستقرون ولا يملكون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب قصص من التاريخ ـ علي الطنطاوي
⚠️ *تنبيه:*
سيصادف هذا العام يوم عرفة في يوم السبت، فيجوز صومه، لمن أراد أن يصومه منفردًا، وأمَّا حديث: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِي مَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ" *فضعيف، ضعفه العلماء،* *منهم:* الزهري، والأوزاعي، ومالك، وأبوداود، والنسائي، والحاكم، وابن القيم، وشيخنا مقبل الوادعي (رحمهم الله أجمعين).

*✍🏼أبوعمَّار ياسر العدني*
مكَّة المكرَّمة
٥ ذو الحجَّة ١٤٤٥ هـ
2024/06/13 00:23:09
Back to Top
HTML Embed Code: